مظفر النواب.. الشاعر الطريد الذي أسقط أقنعة الأنظمة العربية
لم يثر شاعر غضب الأنظمة العربية في النصف الثاني من القرن الماضي بقدر ما أثار الشاعر العراقي مظفر النواب، الذي استطاع بكلماته أن يكشف زيف الشعارات المرفوعة آنذاك، ما عرضه للنفي والمطاردات الدائمة. «شبابيك» يستعرض ملامح من حياة الشاعر العراقي وكيف انعكست على أشعاره.
هو مظفر بن عبدالمجيد بن أحمد حسن بن أحمد بن إقبال بن معتمد النواب، و«النواب» تسمية جاءت من النيابة، أي النائب عن الحاكم حيث كانت عائلته تحكم إحدى الولايات في الهند.
مظفر النواب.. نشأة أرستقراطية
وُلد مظفر في بغداد عام 1934، ولكن تاريخ ميلاده كُتب 1932، حتى يتمكن من دخول المدرسة في سن مبكرة، ما أدى إلى شعوره بالخجل من رفاقه لأنه كان أصغرهم سناً، فكان يرتبك عندما يطلب منه المعلم أن يقف أمام الطلاب.
عاش في بيت مترف يسوده الوئام والسعادة، فقد كان ينتمي إلى أسرة أرستقراطية، لكن ذلك لم يستمر طويلاً حيث تدهورت حالتها المادية.
كان مظفر الأمل المنشود وحبل النجاة لإنقاذ العائلة من هذا التدهور، ولكن سرعان ما تبددت هذه الآمال وتبخرت، فبعد أشهر من تعيينه مدرساً في إحدى المدارس ببغداد، تم فصله لأسباب سياسية على خلفية علاقته بالحزب الشيوعي العراقي الذي انضم إليه في فترة الجامعة.
ساءت الأوضاع المالية للعائلة، وبقي عاطلاً عن العمل من عام 1955 حتى انهيار النظام الملكي وقيام النظام الجمهوري عام 1958، حيث تم تعيينه مفتشاً في مديرية التفتيش الفني بوزارة التربية.
هروب مستمر ومطاردات على الحدود
وفي عام 1963 اضطر النواب للهرب من العراق بعد اشتداد الصراع السياسي بين القوميين والشيوعيين، فاتجه إلى إيران عن طريق البصرة عبر البساتين المتاخمة للحدود، فاحتضنه الفلاحون في قرية الأهوار وضمدوا جراحه، وساعدوه في التوجه إلى طهران ليعبر منها إلى روسيا، لكنه فشل في عبور الحدود الإيرانية الروسية، فأُلقى القبض عليه في قرية على الحدود، وأعيد إلى طهران حيث خضع للتعذيب الجسدي والنفسي على أيدي جهاز الأمن الإيراني.
وفي العام نفسه سلّمته السلطات الإيرانية إلى العراق، وهناك قُدم إلى المحاكمة العسكرية، فطلب المدعي العام العسكري الحكم عيه بالإعدام، إلا أن مساعي أهله وأقاربه نجحت في تخفيف الحكم إلى السجن المؤبد، حيث حُكم عليه بثلاث سنوات إضافية إلى المؤبد بسبب قصيدته الشهيرة «البراءة».
نُقل مظفر بعد ذلك إلى سجن «نقرة السلمان» في عمق الصحراء الجنوبية الغربية من العراق قرب الحدود السعودية، ثم إلى سجن «الحلة» جنوب بغداد، وهناك بدأ يخطط للهروب في عام 1967، وهو ما حدث بنجاح.
بعد هروبه من السجن توجه إلى بغداد وبقي متخفياً فيها ستة أشهر، ثم توجه إلى الأهواز في الجنوب، حيث انطلق الكفاح المسلح في الريف وعاش مع الفلاحين، وبعد عام 1968 صدر عفو عام عن الهاربين فرجع إلى سلك التعليم في بغداد.
بيروت ودمشق والقاهرة
لم يمر وقت طويل حتى حدثت موجة من الاعتقالات في صفوف الشيوعيين بعد قيامهم بعمليات اغتيال عدد من الشيوعيين الذين تعاونوا مع السلطة الحكومية، فتم اعتقاله في تلك الحملة إلا أن مساعي بعض السياسيين أثمرت عن إطلاق سراحه والسماح له بالسفر إلى بيروت للإشراف على طبع أحد دواوينه، فبقي فيها ستة أشهر.
وذات يوم ذهب لزيارة إلى دمشق، وعند عودته للبنان منع من دخولها، فرجع إلى دمشق، ووجهت له دعوة لاستضافته من قبل رئاسة الجمهورية، لكنه اعتذر عن قبول الدعوة الرسمية، وبقي في دمشق فترة غير قصيرة، ثم سافر إلى إريتريا، ثم إلى القاهرة وبقي فيها سنة ونصف، ومنها إلى بيروت وسوريا والعراق واليونان وفرنسا.
وخلال إقامته في فرنسا استطاع أن يطبع ديوانيه «المساواة أمام الباب العالي» و«وتريات ليلية»، وانتهى به المشوار للاستقرار في ليبيا، وهناك كانت توجه له الدعوات لزيارة البلدان العربية كالجزائر والسودان حيث أقام أمسيات شعرية كان لها صدى واسع في أوساط الجمهور.
موقف حاد من الأنظمة العربية
هكذا كانت حياة النواب مشحونة بالأخطار والتنقل والسفر والاغتراب، ويلفها الغموض الاضطراري بسبب الاستهداف الدائم الذي يستشعره بصور متواصلة، إضافة إلى التعذيب النفسي والجسدي الذي تلقاه على أيدي السلطات بسبب مواقفه السياسية من الحكام العرب.
هذه الهزات الحياتية العنيفة التي تعرض لها وعلى رأسها النفي خارج الوطن، ولدّت لديه موقفاً معادياً للأنظمة العربية كافة، ما انعكس على شعره، بشكل جعله يساجل اللغة ويمازج بين عدة مستويات لغوية تتماشى مع تراثه الثقافي من جهة، وعلاقته بالعالم الخارجي من جهة أخرى.
وقد تنوعت هذه المستويات لتتوزع بين المستويين الفصيح والعامي، فجعل اللغة الشعرية سلاحاً أشهره في وجه الأنظمة العربية ليقطف به ثمرة الشهرة الواسعة التي وصل إليها بأشعاره هاتكاً بها الأقنعة الرسمية.