سيبويه.. قصة أشهر عالم نحو عرفته اللغة العربية
يعد سيبويه أشهر عالم يدور اسمه على ألسنة الدارسين لقواعد اللغة العربية، وله في نفوسهم من الإجلال والتقدير ما ليس لنحوي سواه، إذ يقدرون آراءه، ويرونها في المكان الأول من العمق والإصابة، ويعتبرون كتابه المسمى بـ«كتاب سيبويه» مرجعاً لا غنى عنه.
في كتابه «سيبويه. حياته كتابه»، ألقى أحمد أحمد بدوي الضوء على أهم المحطات الحياتية لأشهر نحوي.
مولد ونشأة سيبويه
نشأ سيبويه عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي في البصرة، لكن غير معروف بالضبط متى وُلد، وإن كان من المرجح أن ولادته كانت سنة 135هـ، كما يجهل التاريخ كذلك مكان هذه الولادة، وإن كان بعض المؤرخين، يرون أنه وُلد بالبيضاء وهي مدينة مشهورة بفارس، وسميت كذلك لأن لها قلعة تظهر من بُعد ويُرى بياضها.
سيبويه إذن فارسي صريح من ناحيتي أمه وأبيه، وربما كانت اللغة الفارسية تحيا نوعاً من الحياة في منزله، وعلى لسان أمه وأبيه، ولعله كان على علم قليل أو كثير بهذه اللغة.
بيد أن كثيراً من حملة العلم ودارسي اللسان العربي في تلك العصور كانوا من الفرس، ما يعلله المؤرخون بعلل كثيرة، كان من جملتها تطلع الشباب ذوي المواهب إلى نيل المناصب السامية في دولة كانت تعتمد على سواعد الفرس، وقد كان هذا الباعث واحداً من بين الأسباب التي حفزت سيبويه إلى دراسة اللغة العربية، والتبحر فيها، كما يدل على ذلك رحلته إلى بغداد، والتي كان يريد من ورائها المجد المادي والأدبي.
وإذا كان التاريخ يجهل بالتحديد منبته، فهو يجهل كذلك نشأته الأولى، ولا يعرف ما ناله الطفل من العلوم، ولا ما أخذه من ألوان الثقافة، وأغلب الظن أنه كان مثل أطفال عصره، يقرأون القرآن ويحفظون شعر العرب وشيئاً من السيرة النبوية وتاريخ الغزوات، ثم يمضي من يريد للتخصص في المادة التي خصصها لنفسها.
طلب النحو
ويروي كثير من المؤرخين أن سيبويه لم يطلب النحو أول ما طلب، بل كان يطلب الفقه والآثار، أي الحديث وتاريخ الغزوات.
أما العلم الذي كرّس له معظم وقته ونبغ فيه وشُهر به، فهو علم النحو، وكتابه فيه أول كتاب وصل إلينا في ذلك العلم، ويحفظ التاريخ من أساتذته في تلك المادة سيد أهل الأدب وصاحب العقلية الجبارة الخليل بن أحمد الفراهيدي، وهو أعظم أساتذته أثراً فيه، وأكثرهم اتصالاُ به وأخذاً عنه، وكان سيبويه أبرع تلاميذ الخليل في النحو وأوثق من حمل عنه.
من أساتذة سيبويه أيضاً عيسى بن عمرو الثقفي، مؤلف كتابي «الإكمال» و«الجامع» في النحو، وكذلك أبو زيد الأنصاري، وأبو الخطاب الأخفش الكبير.
ويذكر التاريخ من زملائه ثلاثة نبغوا على يد الخليل بن أحمد، هم النضر بن شميل، وكان من أبرع تلاميذ الخليل في اللغة، ومؤرّج بن العجل، وكان أبرعهم في الشعر واللغة، وعلي بن نصر، وكان أبرعهم في الحديث.
مناظرة بغداد بين الكوفيين والبصريين
بعد تمكنه من ناصية النحو، رحل سيبويه إلى بغداد في عهد هارون الرشيد لمناظرة عالم اللغة الكوفي أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي، وكان الهدف من تلك الرحلة هو نيل المجد المادي والأدبي، فقد كان الكوفيون إلى ذلك الحين يستأثرون بهبات الخلفاء ويقومون على تربية أولادهم، فطمع سيبويه في أن يفتح باب الخلفاء والأمراء للبصريين وأن يشارك الكوفيين حظهم.
كان سيبويه واثقاً بنفسه الثقة كلها، مؤمناً بقدرته على الظفر، فأراد أن يبرهن للأمراء على أن البصريين يفوقون الكوفيين، فعمد إلى رئيسهم مؤمناً بأن انتصاره عليه في المبارزة يجلسه على قمة المجد الأدبي، ويجعله يظفر بما يرغب من المال والثراء، لكنه أخفق في المناظرة.
الوفاة كمداً
بعد إخفاقه في المناظرة أصيب سيبويه بيأس شديد، وفضل العودة إلى مسقط رأسه في مدينة البيضاء بفارس، ولكن يظهر أن الصدمة كانت شديدة عليه فلم يحتملها، ولم يلبث أن مات غماً بمرض أصابه في معدته قبل أن يصل لبلدته وكان ذلك سنة سنة 180هـ.
ومما يدل على أثر الصدمة في نفس سيبويه، أنه كان يتمثل عند موته قائلًا:
يُؤمَل دنيا، لتبقى له فمات المؤمَل قبل الأمل
على كلٍ، كان سيبويه ذكياً، متوقد الذكاء، ذا عقل منطقي متزن، يحسن التفريع والتعليل، وكتابه خير دليل على ذلك.
كان أيضاً طموحاً لم يرض بحظه في البصرة وأنه أصبح شيخها في عالم اللغة، بل أبى إلا أن يكون وحيد دهره، لا عِالم فوقه في العالم الإسلامي، وإلى جانب طموحه كان واثقاً بنفسه تمام الثقة، يؤمن بقدرته في النحو قدرة فائقة.
والغريب، أنه كان إلى جانب ذلك مفرط اليأس إذا يئس، فلم يستطع أن يقاوم الصدمة التي مُني بها عندما أخفق في رحلته إلى بغداد.
وحيداً مع النحو
لا يروي التاريخ شيئاً يتعلق بزواج سيبويه، وأغلب الظن أنه عاش حياته كلها للعلم والتعليم، فالروايات التي تتحدث عن وفاته وتصف لحظاته الأخيرة لا تتحدث عن زوجة ولا ولد، وكل ما يذكره التاريخ له من الأقارب أخ كان الحب والمودة يربطهما معاً بأوثق رباط، ولعل سيبويه لم يكن له أخ سواه.
لم يترك سيبويه ذرية من بعده، ولكن ترك ذكراً مخلداً وهو كتاب سيبويه، واسماً سيبقى ما بقيت اللغة العربية، وما بقي دارس لهذه اللغة.
وقد نال سيبويه في حياته من الشهرة وذيوع الصيت ما لم ينله قبله إلا أستاذه العظيم الخليل بن أحمد، بل لقد صار اسمه يُذكر بجانب أستاذه كلما تحدث الناس عن أعظم علماء النحو، ولم تقف شهرته عند العلماء، بل كان مشهوراً كذلك بين جمهور الشعب يتأثرونه ويقلدونه، فيُروى: قال رجل لسمّاك بالبصرة: بكم هذه السمكة؟، قال: بدرهمان، فضحك الرجل، فقال السمّاك: ويلك، أنت أحمق، سمعت سيبويه يقول: ثمنها درهمان.
وترك سيبويه من بعده تلاميذه، وكان أشهرهم أبو الحسن الأخفش الأوسط، والناشئ، وأبو علي قطرب، كما ترك كتابه العظيم.