ذهب «نجيب محفوظ» لا يصدأ أبدا

ذهب «نجيب محفوظ» لا يصدأ أبدا

معه.. ترتدي جلبابًا فضفاضًا، تجلس على مقهى شعبي وسط التجار والمعلمين، تُنصت بشغف لصوت ذلك المنشد، الذي يتخذ ركنا قصيّا من المقهى؛ ليشدو فيه ألحانه مقابل كوب من الشاي، وشطيرة فول تُصمت صرخات معدته الخاوية.

تسير في الحواري، تستمع إلى حوار ربّات البيوت مع بعضهن في شُرفات منازلهم المتلاصقة، تتابع نداءات الباعة المُلحّنة بحِرفيّة تُنافس أفضل مُوسيقيّ العالم.

هو وحده من جعل الورق ينبض، بقلمه فقط تتحول الحروف إلى كائنات حيّة بأشكال وطِباع وتاريخ، تتجول أمامك على الورق، هو فقط، رغم رحيله، مازالت رواياته تنبض بالحياة، سحر كامل تضمّه جميع الكُتب التي تحمل اسمه على غلافها.. اسم نجيب محفوظ.

هناك لحظات يتوقف عندها التاريخ، تمضي بك دون أن تشعر باختلافها عمّا قبلها أو تلاها من لحظات، وبعد حين، تُدرك كم كانت لحظة فارقة في الحياة. هكذا كانت تلك اللحظة، حين جاء إلى الدنيا في مِثل هذا اليوم، منذ 104 عام، الأديب العظيم «نجيب محفوظ».

«مصر ليست مجرد وطن بحدود، ولكنها تاريخ الانسانية كله» هكذا اعتقد، ورغم السعي الحثيث لأدباءٍ كُثر حوله لمحاولة "«تمدين» كتاباتهم حتى تتلائم مع المجتمعات الغربية؛ سعيًّا للعالمية، إلّا أنّ تلك العالمية هي من سعت خلفه سعيًّا، ليُصبح أوّل عربي يحاز على جائزة «نوبل» في الأدب.

عِشق "محفوظ" لمصر كان خالصًا لا ادعاء فيه، كان لا يطيق بُعدها، رغم كل ما واجهه فيها، حتى أنّه حين نال جائزة «نوبل»، رفض السفر لاستلام الجائزة وأوفد ابنته بدلًا منه.

رغم كون روايات "محفوظ" شديدة العمق، بحيث لا تتناسب مع مُبتدئ في القراءة، أو مع الأطفال، إلّا أن أعماله مُتغلغة بداخلنا، «سي السيد» و«أمينة»، حتى الآن يُضرب بهما المثل في الأسرة المصرية التقليدية قديمًا.

«الأمر الذي لا شك فيه أنني في حياتي لم يأتِ إليَّ شك في الله، وإذا كنت قد بدأت أفهم الدين فَهمًا خاصًا في وقت المراهقة، فإنني قد فهمت الإسلام على حقيقته تمامًا بعد ذلك. بل أعتقد جازمًا وحازمًا أنه لا نهضة حقيقية في بلدٍ إسلامي إلا من خلال الإسلام» قالها محفوظ قويّة، واضحة وقاطعة، برغم ما قيل عنه، حول خروجه من الدين، بعد روايته المثيرة للجدل، حينها، أولاد حارتنا.

«القاهرة الجديدة.. الحرافيش.. خان الخليلي.. زقاق المدق.. السراب.. بداية ونهاية.. الثلاثية.. ثرثرة فوق النيل.. الكرنك» وغيرها الكثير من أعمالٍ حفرت تاريخًا جديدًا للأدب العربي، ذهب يلمع وتزداد قيمته يوميًا، يحيى أبطالها يوميًا بيننا، يُحدثوننا ويُشاركونا حكاويهم، رغم رحيل صاحبهم.

القهوة، كانت دومًا رفيقة «محفوظ»، يُحبها مُرة دون سكر، لا يجرؤ أن يُقاطعه أحد أثناء الكتابة، سوى قهوته، وصوت «الست» أم كلثوم، يظلّان جواره طوال مدة كتابته في غرفته. فنجان مع بداية الكتابة، وآخر تُعده زوجته وتُدخله بصمت بعد حين، وثالث قبيل انتهاءه.

نجيب-محفوظ

شيماء عبدالعال

شيماء عبدالعال

صحفية مصرية مهتمة بالكتابة في ملف الأدب والثقافة