مي الفحام تكتب: عزيزي المراسل.. اسمك مكتوب بالقلم الرصاص
إن قذف بك قدرك لتعمل مراسلا صحفيا أو مصورا بإحدى المحافظات بعيدا عن عاصمة المحروسة، فحاول أن تسترجع شريط حياتك وتتذكر سريعا ما الجُرم الذي ارتكتبه في هذه الدنيا كي تكون تلك هي نهايتك، فقطعا أنت قد ظلمت أحدا ظلما بينا وقد دعا عليك في ساعة مستجابة لتلقى هذا المصير، مصير أن تعمل كثور في ساقية بلا انقطاع أبدا ومع ذلك لا تصل لأي شيء هو حقا أمر لا يتحمله إلا قلائل على سطح هذا الكوكب.
هناك أزمة تعيين في مجال الصحافة والإعلام في مصر، كل العاملين في المجال على علم بها، وليست هذه هي أزمتي الحقيقة، فجميع المساوئ التي يتعرض لها الصحفيون في القاهرة يمكنك ضربها في ثلاث أضعافها لتتخيل كم الضغط الذي يتعرض له مراسلو المحافظات من صحفيين أو مصورين..
فيكفي أن تعلم أن لكل صحفي ومحرر مجال تخصص فيه بينما المراسل يحاول أن يتقمص دور "المكوك" ليبدأ يومه بنشرة الحوادث وبعدها يواصل أخبار الوقفات السياسية والعمالية واجتماعات المحافظين وجولات رؤساء الأحياء على أن يختتم يومه بعروض الأوبرا، كما أن المراسل لا يعمل وفقا لـ"شيفت" وتستمر فترة عمله طوال ساعات اليوم وإذا حدثت كارثة – فجرا- ولم يكتب عنها، فليس غريبا أن تجد رئيسه يعنفه قائلا "ومين قالك تنام قبل الفجر يا مهمل؟!".
أما عن التعيين، فحدث ولا حرج، ففي الوقت الذي يعاني فيه محررو الصحف والمواقع الإلكترونية من تأجيل خطوة تعيينهم بعقود في صحفهم عام أو اثنين، يعاني المراسلون من تأخر تعيينهم العمر كله، حتى أنني في اجتماع إحدى المواقع التي عملت بها، قال مدير التحرير لنا صراحة "احنا مؤمنين إن المراسل زيه زي الصحفي من حقه يتعين ويدخل نقابة كمان، أنتم دوركم ما يقلش عن دور الصحفيين هنا، حنعين منكم 2 كل سنة، يعني عبال ما نعين مراسلين في كل الجمهورية حيكون عدا على إنشاء الموقع 12 سنة، مبسوطين؟"، بغض النظر أنه بعد مرور 6 أشهر فقط تم الاستغناء عن 80% من هؤلاء المراسلين، بحجة قلة الميزانية والرغبة في تقليل نفقات العاملين.
بمناسبة الميزانية، فلك أن تعلم أن كل الصحف تمر بأزمات مادية من بعد الثورة تحديدا، بما فيها المواقع والصحف الكبيرة، وعليك أن تعلم أيضا أن أول خيار يقفز في ذهن صاحب المؤسسة في إطار تقليل النفقات هو طرد مجموعة من العاملين، وبالطبع بالطبع دائما ما يأتي خيار طرد مراسلي المحافظات على اعتبار أنهم أصلا كمالة عدد وواخدين حيز على الفاضي في أول القائمة، ولا مانع من أن يقنع المديرون أنفسهم من أن كل مراسل هو في الحقيقة محتال ويعمل بأكثر من صحيفة في وقت واحد مع تغيير اسمه، ولذا هو شخص "حلنجي ومظبط نفسه" ولن يفرق معه كثيرا المرتب الذي خسره معنا.
يالذاكرتي الضعيفة، كدت أنسى أن أحدثكم عن الرواتب الكبيرة وشلال الحوالات الذي يبحر داخله المراسل كل شهر، فهناك 3 أنواع من هذا الكرم الوظيفي، أولهم أن يصارحك رئيس التحرير أن الصحيفة "على قدها" ولن يكون هناك رواتب أو تعيينات في الوقت الحالي، مع وعد مؤكد والقسم بجميع الأيمانات أن كل ذلك سيتبدل إن استطاعت الصحيفة إثبات نفسها والحوز على ثقة القارئ وأموال المعلنين وهو بالطبع اليوم الذي لا يأتي أبدا.
بينما النوع الثاني هو ذلك الذي يشترط أن يذّلك قبل الموافقة على إنضمامك للموقع، ويطالبك أن تعمل لمدة 3 شهور بدون أجر وإذا أثبت جدراتك حقا في تصوير اللقطات الخاصة والحصول على تصريحات حصرية من المحافظ ووكلاء الوزارات ولا تنسى التحقيقات والتقارير الدورية، فأبشر يا بطل سوف تتلقى راتبك بدءا من الشهر الرابع والمقدر بـ500 جنيه... ماذا حدث لوجهك؟ ولما ترقص عينك اليمنى بهذه الطريقة؟ مؤكد تلك علامات الفرح التي تصيب أي صحفي عند مفاجأته بهذا العرض المغري.
أما النوع الثالث فهو ذلك السخي الذي يبشرك بأن سوف يمنحك راتب يتخطى الـ700 جنيه وقد يصل إلى 1000 كاملة من أول شهر عمل (هذا رقم يعتبر مغريا بالنسبة للمراسلين)، هذا على شرط الاجتهاد في العمل في أخبار حصرية وتغطيات مصورة بالفيديو، وخاصة للكوارث والفضائح كلما أمكن، بخلاف حوارات مع المسئولين، ويا حبذا لو تحقيقات من الساخنة عن كشف وقائع الفساد المستترة داخل الهيئات الحكومية، وربما يفتح الحظ أبوابه أمامك على مصراعيه، لتجد نفسك قد أصبحت معينا بعقد مؤقت (غالبا عقد سنوي يتم تجديده مرة كل عام) وتظن وقتها أنك أخيرا استقريت وحافظت على مكانتك الوظيفية كأي إنسان طبيعي.
ولكنك ستفاجأ بعد مرور عام أو اثنين بأن مؤسستك هي الأخرى تتعرض للإفلاس ولا سبيل لإنقاذ المركب المعرضة للغرق إلا بإلقاء طاقمها في البحر، ولأن القبطان المضحي لا وجود له إلا في فيلم "تيتانك"، فلك أن تعلم أن رئيس التحرير ورؤساء الأقسام باقون وأنت وزملاءك فقط "الحمل الزيادة" الذي يجب القذف به حالا، وعندها ستدخل في السلسلة المعتادة من جمع توقيعات لعمل محضر جمعي ضد إدارة الصحيفة وبعدها الاعتصام أمام سلالم نقابة الصحفيين التي ستحاول التضامن معكم بكل جهد إلا أن للأسف القانون لن ينصفكم إلا إن كانت عقودكم دائمة، وقد سبق واتفقنا أنا لمراسلين لا يحملون عقود دائمة أصلا، لأنه ليس من العادي في مهنتنا أن يشعر أي مراسل في أي مؤسسة أنه باقي في مكانه، وكأن كل المنظومة اتفقت على أن يكون دائما وضعه على المحك ومكانه عرضه لأي بديل عنه.
عزيزي المراسل.. في الحقيقة، اسمك مكتوب بالقلم الرصاص في العمل، وفي التعيين، وفي التثبيت، وفي الالتحاق بالنقابة، وفي صرف راتبك في موعده، وفي أن تترقى من مراسل صحفي لمراسل تليفزيوني، وفي أن يصبح لك شأن في هذه المهنة أساسا، لتصحو يوما وتنظر في المرأة وتكتشف أنك قد أوشكت على الخمسين من عمرك وأنت لازلت تقف في نفس النقطة.. مراسل صحفي يتنقل بين المواقع والجرائد بعد أن تغلق أيا منها أبوابها ويظطر هو لأن يبدأ من جديد في مكان آخر لا تتحجج إدارته بضعف الميزانية أو عدم اعترافها بتأثير المراسلين في عمل المؤسسات الصحفية.
أعلم جيدا أن هناك نماذج ثابرت في البداية وتحملت كل هذه الضغوط، حتى تم تثبيتها أخيرا في مواقع عملها وتمكنت من الالتحاق بالنقابة، بينما أعرف نماذج أخرى أيضا كانت في منتهى الاجتهاد ووصلت لمرحلة سنية متقدمة ولم تحقق شيئا مما كات تستحقه، بسبب ظروف العمل الغير عادلة بالمرة، ولا أعلم أي المصيرين سألقى أنا عن نفسي، إن ظللت بعقلي أصلا في هذه المهنة.