الحج قبل الإسلام.. شعيرة مقدسة لا تنفصل عن عبادة الأوثان
كان الحج عبادة مقدسة عند العرب قبل ظهور الإسلام بزمن بعيد، وكانوا يقدسون الكعبة أيضا لاعتقادهم أنها بيت الله الحرام، حتى إن الرجل منهم كان يرى قاتل أبيه فلا يمسه بسوء لحرمة هذه الأرض.
وكان العائد من الكعبة يأخذ معه بعضا من أحجار الحرم ليعود بها ويطوف حولها تيمنا بالكعبة، هذا ما يخبرنا به الدكتور علي حسني الخربوطلي في كتابه «الكعبة على مر العصور».
ولهذا كله كانت هناك طقوس خاصة بالحج عند العرب قبل الإسلام، والذي اعتبر أكبر موسم ديني وثقافي وتجاري في ذلك الزمن.
طقوس الحج قبل الإسلام
- الأشهر الحُرم والاستعداد للحج
كان العرب قبل الإسلام يبدأون في الاستعداد قبل موسم الحج بوقت طويل، فالسفر إلى مكة قد يستغرق شهورًا، كما أنه يحتاج إلى تجهيز لوازم السفر، من شراء الدابة وتجهيز الطعام والمياه التي سيعتمد عليها الحاج طوال السفر.
ولهذا قدس العرب الأشهر الحرم، فكان جزءا كبير من تحريم القتال في الأشهر الحرم، هو تعظيم لحرمة الحج وحماية لمسيرة الحجاج، كما يقول «الخربوطلي».
- تلبية خاصة بكل قبيلة
وبعد أن ينوي العربي الحج، يذهب إلى صنم القبيلة، ويبدأ في التلبية أمامه، قبل أن يركب في القافلة الذاهبة لمكة، ويستمر في التلبية حتى الوصول.
وكانت لكل قبيلة تلبية خاصة بالصنم الذي تعبده، فكانت تلبية قريش للصنم «إيساف»:
لبيهم اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك
ومن تلبية قبيلة همدان:
لبيك مع كل قبيل لبيك، همدان أبناء الملوك تدعوك، قد تركوا أصنامهم وانتابوك، فاسمع دعاءً في جميع الأملوك.
وحافظ الإسلام كذلك على شعيرة التلبية، لكنه استبدل صيغتها بما يناسب العقيدة الجديدة.
- السدانة والرفادة والسقاية
وعندما ينهي العربي رحلته ويستقر عند الكعبة، كان يجد كل شيء مجهز له؛ الطعام والشراب، والطرق الممهدة، والمشاعل الكثيرة التي توضع فوق الجبال لتنير له الطريق. فقد اعتبر أهل مكة أن خدمة الكعبة والحجاج هو واجب مقدس عليهم؛ وظهرت مصطلحات مثل السدانة والسقاية والرفادة.
فالسدانة هي حراسة البيت الحرام وتنظيفه وفتحه وإغلاقه وتأمينه، وتعتبر أرفع المناصب التي يمكن أن تتولاها القبيلة أو أحد رجالها. أما أشهر القبائل التي تولتها، فهي جرهم، وخزاعة، ثم استقرت في النهاية لقبيلة قريش.
والسقاية هي توفير المياه اللازمة للحجاج، بحفر الآبار وبناء الأحواض ونقل المياه إليها من الأماكن البعيدة؛ وكانت ثاني أهم هذه المناصب.
ولم تكن السقاية بالمهمة السهلة أبدا في هذا الوقت، لندرة المياه في شبه الجزيرة العربية، وفي مكة تحديدا، ولصعوبة حمل المياه ونقلها إلى الحرم، والمحافظة عليها نظيفة.
وكان أشهر من تولى السقاية قبل الإسلام، هو جد الرسول عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وهو الذي أعاد حفر بئر زمزم بعد أن عفا عليه الزمن.
أما الرفادة فهي توفير الطعام للحجاج وللفقراء منهم بصفة خاصة. وأشهر من تولاها قبل الإسلام هو جد الرسول الأكبر، هاشم بن عبد مناف.
وكان اسمه الحقيقي «عمرو»، وسمي بـ«هاشم» لأنه في إحدى السنوات التي حدث فيها جفاف شديد، كان يجمع الخبز ويكسره بيديه ليصنع طعام الثريد للحجاج، فسمي منذ ذلك الوقت «هاشم بن عبد مناف»، كما يقول محمد بن عبد الله بن أحمد الأزرقي في كتابه «أخبار مكة وما جاء فيها من الأثر».
وفيه قال الشاعر الزبعري السمهي:
عمرو العلا هشم الثريد لمعشر ... كانوا بمكة مسنتين عـجـاف
- الطواف عُراة
وبعد أن يصل العربي للمكة، يبدأ بالطواف، لكنه لا يطوف حول الكعبة في البداية، بل تذهب كل قبيلة إلى صنمها الخاص فتطوف عنده؛ فقد كانت قريش تحرص على وضع أصنام القبائل كلها بالحرم، لجذب هذه القبائل للحج.
كان العرب قبل الإسلام يطوفون حول الكعبة عراة تماما، سواء أكانوا رجالا أو نساء. وبسبب ندرة المصادر المكتوبة في هذه الفترة، يحاول مفكرو الإسلام أن يفسروا هذه العادة، بأن العرب كانوا لا يريدون أن يدخلوا الحرم بثياب عصوا الله فيها، في دلالة إلى رغبتهم أن يصبحوا أنقياء كما ولدتهم أمهاتهم. وكان أهل مكة فقط هم من يرفضون الطواف عراة، ولكن يشترطون الملابس الجديدة تماما للطواف.
المؤرخ العراقي جواد علي يقول، في كتابه «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام»، إن العرب - بعد الإسلام - حاولوا التخفيف من حدة هذه العادة، فقالوا إن النساء كن يطفن بالليل بعيدا عن أعين الرجال، أو كن يضعن شيئا صغيرا يستر عوراتهن، أو يسترنها بأيديهن.
- الطواف حول الصفا والمروة
بعد الطواف حول صنم القبيلة، كان بعض العرب، وعلى رأسهم قبيلة قريش، يطوفون حول الصفا والمروة. فقد وضعت قريش على جبل الصفا صنم لرجل يدعى «إيساف» وعلى جبل المروة صنم لامرأة تدعى «نائلة».
ويبدأ القرشي في الطواف حول «إيساف» سبعة أشواط، ثم يذهب للطواف حول الكعبة سبعة أشواط أخرى، وأخيرا ينهي طوافه حول «نائلة» بسبعة أشواط مماثلة.
الأساطير العربية التي تنقلها كتب التاريخ بعد الإسلام تقول أن «إيساف» و«نائلة» هما رجل وامرأة قد مارسا الخطيئة عند الكعبة فمسخهما الله صنمين ثم وضعها على جبلي الصفا والمروة ليتعظ الناس منهما.
ولكن هناك من يرفض هذه الرواية، فهناك دراسة لجامعة بابل تقول إن هذه الرواية وإن ذكرت في كتب مهمة مثل كتاب «الأصنام» لابن الكلبي؛ فهي تتناقض مع المكانة التي وضعها العرب لمكة، وتبركهم بالصنمين، وتقديم الذبائح عندهما.
الدراسة ترجح أن «إيساف» و«نائلة» هما رمزان لآلهة الخصوبة، وهي العبادة التي كانت شائعة عند العرب والأمم المجاورة قبل الإسلام؛ خاصة عندما نضيف إليها عادة الطواف عراة، وبعض العبادات الأخرى الخاصة بعبادة الشمس والقمر وبعض الظواهر الطبيعية الخاصة بالخصب.
وعندما جاء الإسلام، استبدل الطواف بالسعي بين الصفا والمروة؛ في ذكرى سعي السيدة هاجر والدة النبي إسماعيل؛ فقد كانت تبحث عن الماء لطفلها في هذا الموضع بين الجبلين.
- الوقوف بعرفة
بعد ذلك يذهب الحجاج للوقوف بعرفة ثم الإفاضة إلى منى والمزدلفة، وهي الشعائر التي ربطها العرب قبل الإسلام بطقوس تتعلق بالعبادات التي انتشرت في ذلك الوقت.
ولا يبدأ الحجاج بالإفاضة إلى منى والمزدلفة إلا بعد شروق الشمس، وهو ما يفسره المؤرخ العراقي بأنه له علاقة بعبادة آلهة الشمس، خصوصا أن العرب كانوا يقدمون الذبائح كقرابين للآلهة في هذه المواقع.
ففي أساطير العرب القديمة، كانوا يؤمنون أن الشمس والقمر قد تزوجا وأنجبا ثلاثة آلهة هم اللات والغزى ومناة، وهي آلهة العرب الرئيسية قبل الإسلام. كما أن كبير الآلهة عند العرب قبل الإسلام هو «هُبل» وهو أحيانا إله الشمس، وأحيانا إله الخصب.
وقد يؤيد هذا الرأي ما حدث بعد الإسلام من تغيير لهذه العادة، فأصبحت الإفاضة في الإسلام قبل طلوع الشمس.
ولم تكن جميع القبائل تقف على عرفات؛ فأهل مكة كانوا يرفضون الوقوف بعرفة، ويعتبرون أن الله اصطفاهم ليكونوا أبناء بيته الحرام، فلا يجب عليهم تركه أو آداء أي شعائر خارج الحرم.
- رمي الجمرات وهزيمة الشر
ومن منى والمزدلفة وغيرها من المواقع التي أبطلها الإسلام فيما بعد، كانت شعيرة رمي الجمرات ضمن طقوس الحج قبل الإسلام أيضا، كما يخبرنا «الأزرقي» في كتابه.
ولأنه لا توجد نقوش أو وثائق تخبرنا الكثير عن حياة العرب قبل الإسلام؛ فيحاول المفكرون الإسلاميون تقديم تفسيرات لهذا الطقس الوثني، فيقول جواد علي إنه «كان يرمز لدفع الشر، أو دفع الذنوب»؛ وهي الشعيرة التي أبقى عليها الإسلام، واستبدل مغزاها بهزيمة الشيطان.
- تقديم القرابين والأضاحي
وخلال موسم الحج كان العرب يذبحون الحيوانات ويقدمونها قربانا لأصنامهم. وكانت قريش تذبح القرابين أو الأضحية عند صنمي «إيساف» و«نائلة»، وكانت باقي القبائل تقدم الأضاحي في عرفات وعند رمي الجمرات.
وكان صاحب الذبيحة لا يأكل منها ويتركها حتى تأكلها الوحوش والطيور الجارحة، لأنها أصبحت في اعتقادهم ملكا للإله أو للصنم.
وعندما جاء الإسلام أبطل عادة تقديم القرابين عند الأصنام، واستبدل بها الأضحية التي توزع على الفقراء، في ذكرى فداء النبي إسماعيل من الذبح.
شعائر الحج بعد الإسلام
عندما جاء الإسلام حافظ على أغلب شعائر الحج التي توارثها العرب، الذين كانوا يضعون الكعبة في مكانة مقدسة، وخصوصا قبيلة قريش، فهي عندهم شعائر ارتبطت بإرث أبيهم النبي إسماعيل، كما يقول خليل عبد الكريم في كتابه «الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية».
ورغم أن كل قبيلة كانت تتخذ لها كعبة صغيرة لعبادة الإله الخاص بها، لكن العرب جميعا كانوا يحجون إلى مكة، الذين اعتبروها بيتا لله الخالق، الذي اعترفوا به، واتخذوا الأصنام وسيلة للتقرب إليه.
وعندما جاء الإسلام حافظ على هذه الشعائر وطهرها من الدلالات الوثنية، وأضاف لها دلالات خاصة بالتوحيد؛ مثل تحريم القرابين التي تقدم للأصنام، وتحريم طواف الكعبة عرايا، كما أرجع بعض الشعائر إلى تراث الأنبياء مثل الربط بين قصة النبي إسماعيل والسعي بين الصفا والمروة؛ كما يقول «عبد الكريم».