الشعراء بين السجن والقتل.. هذا مصير من يعارض الخليفة سياسيا

الشعراء بين السجن والقتل.. هذا مصير من يعارض الخليفة سياسيا

في قديم الزمان عرفت الدولتين الأموية والعباسية الكثير من المعارضين السياسيين، أبرزهم كانوا شعراء استخدموا شعرهم في انتقاد سياسة الدولة وهجاء الخلفاء والوزراء وحشد الناس ضدهم.

من هؤلاء الشعراء من كان فارسا ثائرا يوقد بشعره نيران الثورة والغضب، ومنهم من كان محبا لآل البيت يرى خلفاء بني أمية وبني العباس مجرد مغتصبين للخلافة ممن هم أحق بها من أبناء علي بن أبي طالب وأحفاده؛ ومنهم من عارض سياسة الدولة ودخل السجن، ثم استطاعت الدولة إغراءه بأموالها، ليتحول إلى مدّاح الخلفاء، وليكون مثل الأداة الإعلامية التي تثبت لشعبية الخليفة بين الناس في مواجهة الثائرين.

وفي النهاية لم يكن لهؤلاء الشعراء المعارضين أو السائرين مصيرا إلا القتل أو السجن. فما قصة هؤلاء الشعراء الثائرين؟ وما قصة هذا الخلاف السياسي القديم؟

الفرزدق.. الشاعر المُتلون

الشاعر الشهير همام بن غالب المعروف بالفرزدق هو أحد شعراء الدولة الأموية الذي  يكثر المديح لخلافائها، لكنه قبل ذلك كان أحد شعراء آل البيت الذين يدافعون عن قضيتهم وحقهم في الخلافة.. فماذا حدث؟

كان الفرزدق مناصرا لزين العابدين بن الحسين علي بن أبي طالب، ألد أعداء الدولة الأموية وكان الشاعر ينشد القصائد التي يمدحه فيها ويناصره ضد الأمويين ويطالب بحقه في الخلافة.

حتى كان اليوم الذي دخل فيه هشام بن عبد الملك إلى الحرم - وكان أخو الخليفة الوليد بن عبد الملك - ورأى «هشام» الناس مجتمعين حول زين العابدين، فلم يعرفه، فقال الفرزدق قصيدة يمدح فيها زين العابدين ويسخر فيها من الأمير الأموي، فقال:

 

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته..  ويعرفه البيت والحل والحرم

هذا ابن خير عباد الله كلهم .. هذا التقي النقي الطاهر العلم

هذا ابن فاطمة، إن كنت جاهله.. بجده أنبياء الله قد ختموا

فكانت النتيجة أن أمر هشام بن عبد الملك بسجن الفرزدق، الذي استمر يهجو الخلفاء وهو في السجن؛ وفقا لموسوعة «معجم أنصار الحسين».

يقول في هشام بن عبد الملك:

يقلب رأسا لم يكن رأس سيدٍ .. وعين له حولاء بادٍ عيوبها

وبعد الخروج من السجن؛ استطاعت الدولة الأموية أن تستميل الفرزدق بأموالها؛ فقد كان الخلفاء يحرصون على إغداق الأموال على الشعراء حتى يمدحوهم ويشجعوا الناس على نصرتهم.

ومنذ ذلك الوقت تحول الفرزدق إلى واحد من شعراء الدولة، فنجدة يقول للخليفة الوليد بن عبد الملك:

أما الوليد فأن الله أورثه.. بعلمه مُلكا ثابت الدِّعم 

خلافة لم تكن غصبا مشورتها.. أرسى قواعدها الرحمن ذو النعم

الأعشى الهمداني.. شاعر الثورة

كان اسمه عبد الرحمن بن الحارث، ويُلقُّب بأعشى همدان. وكان صاحب موقف سياسي واضح ضد الدولة الأموية.

الأعشى بدأ حياته بعيدا عن السياسة تماما؛ فقد كان فقيها وقارئا للقرآن. ولأنه عاش حياته كلها في عصر تقلبات سياسية كثيرة، عرف الكثير من الثورات ضد الدولة الأموية؛ فقد استخدم الشعر كأداة للمعارضة السياسية، حتى إنه استطاع أن يحشد أهل الكوفة جميعهم ضد الأمويين.

أما خصمه اللدود فلم يكن الخليفة نفسه، بقدر ما كان القائد الأموي الحجاج بن يوسف الثقفي الذي عُرف بشدة بطشه وقتله لمعارضي الخلفاء الأمويين، حتى لو كانوا من الصحابة أو التابعين.

يبدو أن الأعشى كان مخلصا في معارضته للأمويين، فهو لم يكتف بالشعر الذي بدأ يؤرق الحجاج الثقفي حتى توعده بالقتل، بل كان أيضا فارسا على رأس الجيوش التي خرجت على الخلفاء الأمويين وحاربتهم بالسلاح، وكان على صداقة قوية بعبد الرحمن بن الأشعث الذي قاد ثورة عنيفة ضد الأمويين؛ كما يذكر سمير فراج في كتابه «شعرا قتلهم شعرهم».

يقول في قصيدة يمدح فيها ابن الأشعث ويدعوه لقتال الحجاج:

أنت الرئيس بن الرئيس .. وأنت أعلى الناس عتبا

نبئت الحجاج بن يوسف.. خر من زَلِقٍ فتبا

فانهض فديت لعله.. يرجو بك الرحمن كربا

وابعث «عطية» في الخيول .. يكبهن عليه كبا

 

انضم الأعشى لثورة بن الأشعث التي عرفت بأنها أعنف الثورات ضد الدولة الأموية. لكنه وقع أسيرا في يد الحجاج بن يوسف الثقفي، الذي قتله على الفور.

الكميت بن زيد.. شاعر آل البيت 

عندما حانت ولادة الكميت بن زيد، كان ذلك في الأيام الأخيرة قبل مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب؛ على يد الأمويين.

ولأنه ولد في بيت هاشمي، فقد فتح عينيه على الدنيا وهو يستمع إلى حكايات عن هذه الفجيعة الكبرى ويرى آثارها بعينيه،.. ولم يكن أمامه اختيار إلا أن يعلن تشيعه لآل البيت، وعداءه الأبدي للأمويين.

أهوى عليا أمير المؤمنين ولا .. أرضى بشتم أبي بكر ولا عمرا

هو الإمام إمام الحق نعرفه.. لا كاللذين استذلانا بما ائتمرا

«الكميت» يرى الأمويين اغتصبوا الخلافة ممن هم أحق بها وكانت قصائد الكميت كانت في بدايتها دينية، في مدح آل البيت، لكنها ما لبثت أن تطرقت إلى السياسة، فهو يمدح آل البيت ومكارم أخلاقهم، ويهجو الأمويين واغتصابهم للخلافة، ويشيد ببني هاشم وحرصهم على الدين، وفي المقابل يهجو في شعره بني أمية وحرصهم على الدنيا.

ولكن الرجال تبايعوها .. فلم أر مثلها خطرا مبيعا

فلم أبلغ بها لعنًا ولكن .. أساء بذاك أولهم صنيعا

فصار بذاك أقربهم لعدل .. إلى جور وأحفظهم مضيعا

أضاعوا أمر قائدهم فضلوا.. وأقومهم لدى الحدثان ريعا

شارك «الكميت» في ثورة زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب؛ ووقع أسيرا في يد الأمويين، وطعنه جنود والي العراق يوسف بن عمر، بالسيوف في بطنه حتى الموت، وفي رواية أخرى قيل أنه طُعن ثم صُلِب حتى الموت.

قطري بن الفجاءة.. أمير الخوارج


كان قطري بن الفجاءة شاعرا وفارسا، لكنه لم يكن يعرض الدولة الأمورية فحسب، بل كان ينازعها في الخلافة، حتى لقبه أتباعه بأمير المؤمنين، وكان الحجاج بن يوسف الثقفي يرسل إليها الجيوش بعد الجيوش فيهزمها.

قطري ينتمي إلى الخوارج، وخصوصا طائفة الأزارقة المنتسبة لنافع بن الأزرق الذي خرج على الإمام علي.

وكان خروج قطري على الدولة الأموية سياسيا ودينيا، ولذلك عرف بأنه فارس ومقاتل عنيد وشجاع، وكان يستخدم شعره ليشعل الحماسة في قلوب أتباعه ضد الأمويين.

يقول بعدما انتصر جيشه على القائد الأموي خالد بن عبد الله القسري

ألم يأتها أن لعبت بخالدٍ.. وجاوزت حد اللعب لولا المُهلَّب

وأنَّا أخذنا ماله وسلاحه.. وسقنا له نيرانها تتلهب

فلم يبق منه غير مهجة نفسه .. وقد كان منه الموت شبرًا وأقرب

ومن قوله في الحث على قتال الأمويين:

أقول لها وقد طارت شعاعا.. من الأبطال ويحك لن تُراعي

فإنك لو سألت بقاء يوم.. على الأجل الذي لك لن تُطاعي

فصبرا في مجال الموت صبرًا .. فما نيل الخلود بمستطاعِ

كان قطري يدافع عن قضيته حتى الموت. وكان هو والحجاج الثقفي يعلمان أن المواجهة قادمة بينهما لا محالة، وأن أحدهما سوف يقتل الآخر.

وفي العام 78 هجريا كانت نهاية قطري في إحدى معاركة ضد الدولة الأموية، لكن لم يكن مقتله على يد الحجاج كما توقع، ولكن قتله القائد الأموي سفيان بن الأبرد الكلبي.

دِعبل الخزاعي .. شاتم جميع الخلفاء

لم يترك دعبل الخزاعي خليفة من الخلفاء العباسيين إلا هجاه.. فلم يسلم منه الخليفة هارون الرشيد ولا الأمين ولا المأمون ولا الخليفة الواثق من هجاءه اللاذع؛ فهو شاعر مولع بالحط من أقدار الناس؛ كما جاء في مقدمة ديوانه.

فقد كان دعبل متشيعا وله قصائد كثيرا في مدح آل البيت، وهذا جعله في موضع خلاف دائم مع الدولة العباسية بجميع خلفائها، ويعتبرهم مغتضبي للخلافة ممن هم أحق بها من آل البيت.

قال يهجو الخليفة المأمون الذي قتل أخاه الأمين بعد صراع على السلطة:

قتلت أخاك وشرفتك بمقعد

شادوا بذكرك بعد طول خموله

واستنقذوك من الحضيض الأوهد

وحتى عندما يموت الخليفة، ويرثيه الشعراء ويظهرون حزنهم عليه، فإن دعبل يقف وحده لينشد قصيدة يهجوه فيها بعد موته.

يقول بعد وفاة الخليفة المعتصم:

الحمد لله لا صبر ولا جلد..  ولا عزاء إذا أهل البلا رقدوا

خليفة مات لم يحزن له أحد..  وآخر قام لم يفرح به أحد

دِعبل كان  يقضي حياته شريدا، يهرب من بلد إلى آخر، خوفا من بطش الخلفاء، وإن كان يعلم أن نهايته ستكون القتل بطريقة أو بأخرى.. فيقول: «أنا أحمل خشبتي على کتفي منذ خمسين سنة، فلست أجد أحداً يصلبني عليها».

ومن بلد إلى أخر لم يستطع أي من هؤلاء الخلفاء الخلاص من الشاعر، حتى قال قصيدة هجا فيها والي الموصل مالك بن طوق، فأرسل من يعثر عليه ويقتله مقابل عشرة آلاف درهم.

أميرة عبد الرازق

أميرة عبد الرازق

محررة صحفية ومترجمة مصرية مهتمة بشؤون التعليم واللغات وريادة الأعمال