السجن ومستشفى المجانين والمنفى.. هذه مصائر الشعراء المعارضين للسلطة
في كل زمن ارتبط الشعراء بالسياسة، ومنذ أن اندلعت ثورة 23 يوليو 1952 تقلّبت مصر بين أحداث سياسية كبرى أعلن فيها الشعراء عن مواقفهم المناهضة للسلطة، وكانت أشعارهم محركًا للمظاهرات والانتفاضات، لكن نهاياتهم كانت بين السجن والهرب والاعتقال في مستشفى المجانين. فمن هم هؤلاء الشعراء؟ وماذا كانت أشعارهم؟
الفاجومي
بعد نكسة 1967 كانت المرة الأولى التي يُسجن فيها الشاعر أحمد فؤاد نجم الملقب بـ«الفاجومي» لأسباب سياسية، وكانت المرة الأولى كذلك التي يكتب فيها شعرًا سياسيًا يهاجم فيه رئيسا بعينه. فقبل ذلك كان يكتب الشعر ليهاجم الإنجليز، ويشكو هم الوطن والفقراء، فقد كان شاعرا معتمدًا في الإذاعة المصرية.
وبعد النكسة حدث تحول كبير في شعر «نجم» وبدأت الصحف والكتاب الكبار يتهافتون عليه لإجراء مقابلات صحفية بسبب شعره الثوري؛ كما يحكي الكاتب والصحفي صلاح عيسى في «مذكرات الفاجومي».
حتى كتب قصيدة «الحمد لله» التي ينتقد فيها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر انتقادًا لاذعًا، ويشير إليه بـ«عبد الجبار» ويسخر من هزيمة 1967 المروعة. وكانت النتيجة هي الحكم عليه بالسجن المؤبد والتهمة هي «إذاعة أشعار مناهضة للحكم».
وكفاية أسيادنا البعدا
عايشين سعدا
بفضل ناس تملا المعدة
وتقول أشعار
أشعار تمجد وتماين
حتى الخاين
وإن شا الله يخربها مداين
عبد الجبار
لم يمكث «نجم» في سجن القلعة الذي أودع فيه أكثر من 3 أعوام، فقد أفرج عنه بعد وفاة «عبد الناصر». لكنه لم يكف عن المشاغبة، حتى إن الرئيس الراحل محمد أنور السادات أطلق عليه لقب «الشاعر البذيء» بسبب أشعاره اللاذعة، واعتقل أكثر من مرة بين عامي 1972 و1973 بسبب مشاركته في مظاهرات العمال، وقصائده التحريضية ومنها قصيدة «أنا روحت القلعة شوفت ياسين» التي يحكي فيها عن تعذيب طلاب الجامعة والعمال في سجن القلعة.
أنا رحت القلعة وشفت ياسين
حواليه العسكر والزنازين
والشوم والبوم
وكلاب الروم
يا خسارة يا أزهار البساتين
عيطي يا بهية على القوانين
وعندما جاء العام 1977 كان «نجم» مشاركا في انتفاضة الخبز، التي اندلعت بسبب غلاء الأسعار، وألقى قصيدة «هما مين واحنا مين» التي اتهم فيها النظام بتجويع الشعب، ثم تجرأ «نجم» أكثر وقدم قصيدة «بيان هام» التي ألقاها بجامعة عين شمس، وكان يقلد فيها «السادات»، وصوته، وطريقة كلامه.
وفي العام 1978 حوكم «الفاجومي» عسكريا بتهمة «إهانة الرئيس»، فكان بذلك أول شاعر تُوجه إليه هذه التهمة، كما يقول «عيسى».
نجيب سرور
كان يطلق عليه «شاعر العقل» وانتهت حياته باعتقاله في مستشفى الأمراض العقلية. فقد وقف نجيب سرور أمام الكل؛ السلطة، والمجتمع، والمثقفين، والفنانين، حتى اتهموه بالجنون.
«سرور» شاعر، وكاتب، ومخرج مسرحي، عُرف بسخطة الشديد للدرجة التي كان يكتب في ذلك الزمن البعيد قصائد تمتليء بالألفاظ النابية يهجو بها النظام السياسي، والمجتمع الفني والأدبي بنفاقه، وتملقه للحكومة، وأشهرها ديوان «أميّات».
بدايته كشاعر ساخط كانت منذ طفولته، فهو لا ينسى أبدًا مشهد ضرب العمدة لوالده بالحذاء، ليسجل هذا المشهد بعد أن أصبح شاعرا شهيرا في قصيدة «الحذاء» ويصف فيها ذلك العمدة في جبروته على الفقراء بـ«الإله».
رأيت الإله يقوم فيخلع ذاك الحـذاء
وينهــال كالسيل فوق أبي
تعلمت من يومها ثورتي
ورحت أسـير مع القافلة
على دربها المدلهم الطويل
لنلقى الصباح
ومن يومها ثار على جميع أصحاب السلطة والرؤساء، وعندما أصبح شابا كان شيوعي الهوى، ولم يرضَ عن أي رئيس بدءًا من جمال عبد الناصر، وسُجن وعذب بسبب كلماته.
يقول عن النكسة:
وقُلنا ننضف بقى قالوا بلا وكسـة
واللـه لتحصل بدال النكسة ميت نكسة
...
"يا إما تسْـكر وتسْـكر زيي ليل ونهار
ونهار وليل وإنت شايف نكسة ع العتبة
اسقيني واعميني لو حتى بميّة نار
علشان ما أحسش بإن السيف على الرقبة
وعندما خرج «سرور» من السجن، لم يصمت بل ندد بما شاهده من تعذيب في السجن، فيقول:
يشرب ويشرب عشان ينسى ولا بينسي
الصَلب والشَنق والهول اللي ماله علاج
يا اللي نسيتوا قولولي إزاي قتيل ينسي
ولاَّ إنتوا برضو اللي قالوا: إصلبوا الحلاَّج
ولم يكن السجن هو عقوبته الوحيدة، فلأنه كان يقول رأيه بصراحة شديدة في أي مكان، فقد طُرد من وظيفته كمدرس بالمعهد العالي للفنون المسرحية كمدرس لمادتي التمثيل والإخراج، ثم طُرد بعد ذلك من وظيفته كمدير للمسرح القومي.
ورغم ذلك فقد استخدم المسرح في ثورته على كل شيء، فقد كتب مسرحية «الذباب الأزرق» والتي ينتقد فيها الحرب التي اندلعت بين السلطات الأردنية وأعضاء منظمة التحرير الفلسطينية، واتهم فيها «سرور» الأردن بتصفية المعارضة الفلسطينية. والنتيجة كانت اعتقال «سرور»، لكنه هذه المرة لم يُعتقل في أحد السجون ولكن في مستشفى الأمراض العقلية، لاتهامه بالجنون.
أمل دنقل
كانت كل قصيدة يكتبها أمل دنقل مزعجة للسلطات في كل عصر، فقد هاجم بشعره كل شيء؛ نظام عبد الناصر، و«السادات»، والمباحث.
فهو صاحب الكلمات الشهيرة:
أبانا الذي في المباحث.. نحن رعاياك
باقٍ لك الجبروت
وباق لنا الملكوت
وباق لمن تحرس الرهبوت
لم يكن «أمل» ينتمي لأي حزب أو حركة سياسية، وقد كتب أغلب قصائدة السياسية بعد النكسة بأسلوب خاص يمزج بين قصص التاريخ والأساطير والواقع السياسي الحالي.
ومن أشهر هذه القصائد «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» التي ترمز للمثقفين الذين حذروا السلطة من الهزيمة المروعة ولم يلتفت إليهم أحد
أيتها العرافة المقدسة
جئتُ إليك.. مثخنا بالطعنات والدماء
أزحف في معاطف القتلى وفوق الجثث المكدّسة
منكسر السيف، مغبَّر الجبين والأعضاء.
أسأل يا زرقاء
عن فمكِ الياقوت عن نبوءة العذراء
عن ساعدي المقطوع.. وهو ما يزال ممسكا بالراية المنكسة
عن صور الأطفال في الخوذات.. ملقاةً على الصحراء
عن جاريَ الذي يَهُم بارتشاف الماء..
فيثقب الرصاص رأسه.. في لحظة الملامسة!
قصائده أصبحت ترتبط بالأحداث السياسية وتحركها فعندما جاء العام 1972 واندلعت تظاهرات الطلاب ضد نظام السادات، كتب «دنقل» قصيدة «أغنية الكعكة الحجرية» التي ينتقد فيها ممارسات العنف من الأجهزة الأمنية ضد الطلاب فيقول:
أيها الواقفون على حافة المذبحة
أشهروا الأسلحة!
سقط الموت، وانفرط القلب كالمسبحة
والدم انساب فوق الوشاح
المنازل أضرحة،
والزنازن أضرحة
والمدى.. أضرحة
فارفعوا الأسلحة
واتبعوني!
أنا ندم الغد والبارحة
رايتي: عظمتان.. وجمجمة
وشعاري: الصباح!
تقول زوجته عبلة الرويني في كتابها «الجنوبي»: «عندما كتب أمل هذه القصيدة أصبحت منفستو للحركة الطلابية في ذلك الوقت، وأدى نشرها في مجلة سنابل إلى إغلاق هذه المجلة».
وفي العام 1978 وبينما كانت مصر وإسرائيل تتباحثان في اتفاقية كامب ديفيد برعاية أمريكية، كتب أمل قصيدته الشهيرة «لا تصالح» التي يبدأها مخاطبا «السادات» بقوله:
لا تصالح!
ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..هل ترى..؟
هي أشياء لا تشترى
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ..
لكن خلفك عار العرب
وبسبب كل هذا عاش أمل دنقل حياته فقيرا مشردا، فقد تم فصله من العمل بقرار من الاتحاد الاشتراكي، ومُنع من النشر في الصحف المصرية. تقول «الرويني» إنه «كان يحمل بؤس الفقراء والمطحونين ويمتلك معهم الكثير من المعاناة والعذابات الطويلة».
أمل دنقل.. دعكم من السياسة وتعرفوا على الطفل المحب
عبد الرحمن القرضاوي
لم يعِش عبد الرحمن القرضاوي طفولته أو كل مرحلة شبابه في مصر، فقد وُلِد في قطر عام 1970، ثم تركها وجاء إلى القاهرة وهو في العشرينيات من عمره. درس الشريعة الإسلامية بجامعة قطر، لكنه اختار لنفسه طريقًا مختلفا، فقد عمل بالصحافة، والسياسة، واهتم بالشعر المُعارض.
وعندما جاء عام 2003، أعلن تنازله عن الجنسية القطرية، حتى لا تثار أي شبهة حول أن تكون معارضته السياسية لها أي أغراض خارجية.
«عبد الرحمن» شارك في جميع الحركات المعارضة التي ظهرت في ذلك الوقت مثل «كفاية»، و6 إبريل، كما كان منسقًا لحملة محمد البرادعي.
ورغم ذلك أصبحت الشكوك ملازمة لـ«عبد الرحمن» بسبب نسبته إلى والده فهو الابن السادس ليوسف القرضاوي، وبسبب نشأته في قطر.
قبل ثورة 25 يناير عُرف بشعره السياسي شديد اللهجة والذي يقترب من الهجاء، فقد قال قصيدة وجهها للرئيس الأسبق حسني مبارك، بعنوان «الهاتك بأمر الله».
يا من لعرضي هتك .. فقدت شرعيتك
وكل أبناء شعبي .. قد شاهدت قسوتك
وكم منحت لصوصا.. يا قاسيا رحمتك
سواد قلبك بادٍ.. فاصبغ به شيبتك
كان «عبد الرحمن» يُلقي قصائدة في المؤتمرات الجماهيرية، لكنه لم يحكم عليه بالسجن، واستمر في قصائده حتى كان له قصيدة بعنوان «ارحل» قالها قبل الثورة بأشهر قليلة في العام 2010.
وبعد الثورة عاد ليكتب مقالات في جرائد شهيرة. وأصبح «عبد الرحمن» تركيبة غريبة، فهو ينتقد الرئيس الأسبق محمد مرسي ويرفض تسمية 30 يونيو بالثورة في نفس الوقت، ويكتب مقالا يرد فيه على أبيه يوسف القرضاوي وينتقد إصداره فتوى بتأيييد «مرسي» تأييدا مطلقا، ويستمر في هجومه على النظام والقوات المسلحة.
نهاية أشعاره المعارضة في مصر كانت بعد أن وُضع اسمه على قوائم الممنوعين من السفر عام 2014، ثم صدر حكمان بحبسه خمس وثلاث سنوات بدعوى إذاعة أخبار كاذبة والتحريض على مؤسسات الدولة. عبد الرحمن القرضاوي سافر إلى خارج مصر ويقيم بدولة قطر.