نهايات مأساوية لزعماء الثورة العرابية
«الثورة تتأثر بشخصيات زعمائها، لأنه إذا كان من الحقائق الثابتة أن ظهور الثورات يرجع إلى ظهور الزعماء، فإن تطوراتها ومصائرها تتبع إلى حد ما شخصياتهم ومصايرهم»، هكذا كتب المؤرخ عبد الرحمن الرافعي عن مصير الثورة العرابية في كتابه «الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي» وقاده هذا التصور للبحث عن نهايات زعماء الثورة والتي لم تكن سعيدة لأكثرهم.
محمود فهمي
هو أكفأ العرابيين من الناحية العسكرية. تدل أقوال «عرابي» في مذكراته أنه لم يكن مؤمناً بالثورة ولا واثقاً في زملائه فيها.
نفي مع الزعماء إلى سيلان عقب إخفاق الثورة، وهناك وضع كتابه «البحر الزاخر في تاريخ العالم وأخبار الأوائل والأواخر»، وتوفي في منفاه في 17 يوليو سنة 1894، وبعد وفاته طُبع كتابه.
عبد العال حلمي
ليس في عمله خلال الثورة ما يستوقف النظر. ظل في دمياط بعيداً عن الحرب، ولم يشترك في معركة ما، وبقي كذلك حتى وقعت هزيمة التل الكبير واستفاضت أنباؤها، فأخذ يكابر في حقيقتها وينفي أخبار الهزيمة ويدعو إلى استمرار المقاومة حتى هددته الحكومة بالإعدام، فأذعن وسلّم نفسه كزملائه، وحوكم ونفي ضمن الزعماء المنفيين، وتوفي في كولومبو في 19 مارس سنة 1891، ودفن هناك.
محمد عبيد
استحق لقب البطولة بدفاعه المجيد في التل الكبير ووفاته في تلك الواقعة. قاتل الإنجليز قتالاً على رأس ألايين (فرقتين) من الجنود، حتى قُتل معظمهم، وقتل هو ضمن من قتل.
لم يترك ذرية، وليس له قبر معروف، ولم يفكر أحد في إقامة قبر له أو تخليد ذكراه، بل لا يوجد في التل الكبير أي مدفن يضم رفات المصريين الذين قتلوا في المعركة رغم أنهم يعدون بالآلف، في حين أن من يمر هناك يشاهد مقبرة مشيدة للضباط والجنود البريطانيين الذين قتلوا في هذه الواقعة.
عبدالله النديم
بعد إخفاق الثورة العرابية اختفى عبد الله النديم خطيب الثورة نحو 9 أعوام، وقد أعيى الحكومة أمره، وجعلت ألف جنيه لمن يرشد عنه، ولكنها لم تهتد إليه.
كان آخر اختفاء له ببلدة الجميزة القريبة من مركز السنطة بمحافظة الغربية، وفيها عثرت عليه الحكومة بإرشاد بعض الطامعين في المكافأة، غير أن ميعاد المكافأة قد انقضى فلم ينل المرشد منها شيئاً، وكان ذلك في آخر عهد الخديوي توفيق.
أصدر «توفيق» أمره بالعفو عنه ونفيه خارج القطر، فاختار يافا ثغر القدس، ونزل ضيفاً عند مفتيها السيد على أفندي أبي المواهب، ثم اتخذ له داراً بها وعرفه أعيان المدينة وفضلاؤها فاحتفوا به وأكرموا وفادته.
بعد وفاة الخديوي توفيق تولى عباس حلمي الثاني مقاليد الحكم وأصدر عفواً عن «النديم» وأباح له العودة إلى مصر، وهنا كان باستطاعته أن يجنح لمسالمة الاحتلال إلا أنه أنشأ مجلة «الأستاذ» وهاجم الإنجليز وسياسات الخديوي، ما أدى إلى تعطيل مجلته ونفيه مرة أخرى إلى يافا.
لم يسلم «النديم» من الوشاية به لدى السلطان عبدالحميد، فأمر بإبعاده فعاد إلى الإسكندرية لا يدري أين يقصد، فسعى له أحمد مختار باشا وساعده حتى قبله السلطان بالآستانة التي بقي بها بقية حياته غريباً عن وطنه.
واشتدت عليه علة السل، وأدركته المنية في 11 أكتوبر 1896، فشيعت جنازته في احتفال مهيب مشى فيه كثير من الكبراء والعلماء يتقدمهم جمال الدين الأفغاني، ودفن هناك بمقبرة يحيى أفندي في بشكطاش.
علي الروبي
عُهد إليه بقيادة الجيش في موقعة التل الكبير، فكانت الهزيمة، إلا أنه وقف موقفاً مشرفاً في المحاكمة، إذا كان هو الزعيم الوحيد الذي أجاب بشجاعة وصراحة على ما وُجه إليه من التهم واحتمل تبعة ما عمل أو اشترك في عمله، ولم يسع في التنصل من المسئولية، ولم يقبل أن يشارك زملاءه في الاتفاق مع السلطات البريطانية على مصير المحاكمة وخطة الدفاع فيها، ولذلك لم يشمله العفو الذي عومل به زعماء الثورة، وحكم عليه بالنفي عشرين سنة.
ولم يمض عليه بها عامان حتى اعتلت صحته وضعف بصره، ثم نقل إلى سواكن في السودان منفياً تحت الملاحظة فيها، وكانت حرارة الطقس قد أثرت في صحته، فأودت ببصره، وتوفي هناك في 19 سبتمبر 1891 ودفن بها.
يعقوب سامي
كان ناظراً لقلم إدارة العسكرية، ولما تولى «عرابي» وزارة الحربية عينه وكيلاً لها، وكان من خاصة المخلصين، ثم انقلب عليه أثناء المحاكمة ونفى ضمن الزعماء السبعة إلى سيلان وتوفي بها في أكتوبر سنة 1900 ودُفن بكاندي.
سليمان سامي داوود
لم يكن من قادة الثورة وزعمائها، ولكن له أثر كبير في مصيرها، إذ كان على رأس الألاي السادس بالإسكندرية، وكان من أشد غلاة الضباط العرابيين، وأكثرهم تهوراً وقلة نظر في العواقب، فألّب زملاءه الضباط في الإسكندرية ودعاهم حين استقالت وزارة محمود فهمي البارودي إلى إرسال تلغراف إلى المعية الخديوية بأن ضباط الجيش لا يرضون عن «عرابي» بديلاً.
ظهر تهوره وطيشه في معركة الإسكندرية إذ كان هو المدير لحصار سراي الخديو بالرمل عقب ضرب المدينة، وكان له عمل خطير وهو إضرام النار في الإسكندرية قبل انسحاب العرابيين منها.
وكان هذا عملاً عقيماً لا مسوغ له ولا فائدة منه فقد كبد مصر خسائر كبيرة في التعويضات التي اضطرت إلى أدائها لأصحاب المتاجر والبيوت التي أحرقت، و«سليمان» هو الزعيم الوحيد الذي نفذ فيه حكم الإعدام.
محمد سلطان
لما ظهرت الحركة العرابية انضم إليها واعتمد عليه «عرابي» في مرحلتها الأولى، ولم تكن مناصرته لها حباً في الحياة والدستور، بل تطلعاً إلى الجاه، شأن كثير من الأعيان وغير الأعيان من أشياع كل حركة يتوسمون فيها النجاح.
عقب ضرب الإسكندرية، اتصل بالإنجليز واتخذوه أداة لرشوة رؤساء القبائل البدوية الضاربة في شرق الدلتا، وإفساد طائفة من العمد والأعيان والضباط لينضموا إلى الإنجليز ما كان له أثر كبير في إلحاق الهزائم بالجيش وتثبيت أقدام المحتلين.
منح الإنجليز سلطان باشا وسام سان جورج وسان ميشيل جزاء لإخلاصه لهم مدة الحرب، فصار يحمل لقب سير، وكافأه الخديوي بـ10 آلاف جنيه، ولما أنشئ مجلس شورى القوانين بعد إلغاء مجلس النواب عين رئيساً له سنة 1883 على أن صحته كانت قد اعتلت وتولى هذا المنصب وهو عليل.
وقيل أنه ندم على موقفه في الحرب العرابية وانضمامه إلى الإنجليز ومساعدته لهم على التغلغل في البلاد وشعر بنقمة الناس عليه، نزل به المرض وذهب للاستشفاء منه في جراتس بالنمسا، فوافاه أجله في أغسطس سنة 1884.
أحمد عرابي
في كتابه «الثورة العرابية» الصادر عن الهيئة المصرية للكتاب، يروي الكاتب الصحفي الراحل صلاح عيسى كلمات مؤثرة عن نهايات «عرابي»، قائلاً: قبل أن يموت «عرابي» بشهور كان خارجاً من المسجد الحسيني عقب صلاة العشاء في إحدى ليالي رمضان، فإذا بشاب يبصق في وجهه صائحاً: «يا خائن»، ومسح الرجل الجليل وجهه، وأغلق باب منزله على وجهه شهوراً طويلة، تُرى ما الذي اعتصر قلبه في تلك الشهور الحزينة؟ ذلك سر أخذه معه إلى القبر.
ويوم مات لم يجد أهله في بيته نفقات جنازته وتجهيزه، فكتموا نبأ الوفاة إلى اليوم التالي، حيث كان مقرراً أن تُصرف المعاشات قبل موعدها لمناسبة حلول عيد الأضحى، وخرجت إحدى الصحف تكتب في مكان متواضع «علمنا أن المدعو أحمد عرابي صاحب الفتنة المشهورة باسمه قد تُوفي أمس».