أحمد ندا.. المقرئ الذي أشعل ثورة الشيوخ وفجّر غيرة الخديوي
أحدث ظهور الشيخ أحمد ندا في بدايات القرن الـ20 نقلة نوعية في قراءة القرآن الكريم، حتى أصبح له مريدون يذهبون ورائه أينما حلّ ووقتما قرأ، الأمر الذي أثار غيرة الخديو بل وفجّر ثورة عارمة بين الشيوخ بسبب حلاوة صوته.
أولاد الليل
قبل ظهور الشيخ أحمد ندا، الذي ولد سنة 1852، كانت قراءة القرآن هي مهنة من لا مهنة لهم. شخص حفظ بعض آيات القرآن باجتهاده الشخصي أو عن طريق الكتاتيب التي كانت منتشرة في تلك الأيام، أو طالب لم يوفق في دراسته في المرحلة الابتدائية، أو رجل أعمى لم يجد وسيلة للرزق إلا قراءة بعض الآيات في مقابر الفقراء. وكان الأجر عشوة في الغالب، وأحيانا قرش صاغ، ولكن هذا القرش كان يكفي لإعاشة شخص لمدة يوم كامل.
إلى جانب هؤلاء وُجد بعض المشايخ الذين ينشدون التواشيح، وكانوا معروفين عند العامة بـ«أولاد الليل». واقتصر عملهم على إنشاد بعض القصائد القديمة، وكانت أصواتهم في هذه الفرق تشبه الصوت الناتج عن خشب يحترق، أو الذي يحدثه احتكاك عجلات قطار بالقضبان عند أحد المنحنيات، ولم يكن لهذه الفئة أجر معلوم، ولكن الأمر يتوقف على شهامة صاحب الدار.
جدال الشيوخ
وفجأة ظهر شيخ أسمر اللون، نحيف العود وسيم القسمات، يقرأ القرآن بشكل جميل وبطريقة مبتكرة تجبر السامعين على الجلوس في أماكنهم ساعات طويلة. وكما أثرّ الصوت الجديد على عقول ومشاعر المستمعين، فقد أحدث ثورة عارمة بين بعض المشايخ، وكان محور الثورة الذي يدور حوله النقاش والخلاف هو: هل الطريقة المبتكرة في التلاوة وبهذا الصوت الجميل حلال أم حرام؟!
ترك الشيخ أحمد ندا أصحاب السؤال يتناقشون، ومضى في طريقه يحقق كل يوم انتصاراً باهراً، ويجمع في كل يوم المزيد من المردين والأنصار. وهكذا قلب الشيخ الموازين كلها ووصل أجره إلى 5 جنيهات عن الليلة الواحدة، وجاب أقاليم مصر كلها يسهر في قصور الباشوات ودور العمد والأعيان، ويهرع لسماعه الألوف الذين يعجبون بصوته، ومرة أخرى ارتفع أجر الشيخ إلى 10 ثم إلى 20 ثم إلى 40 جنيهاً.
غيرة الخديوي
ظل يرتفع أجر الشيخ أحمد ندا بعد ذلك إلى أن بلغ 100 جنيه عن الليلة الواحدة، وأصبح له حنطور تجره 6 خيول (كان ذلك علامة من علامات الوجاهة الاجتماعية)، وقصر يؤمه الشعراء والأدباء ورجال الحكم والسياسة، وأصبحت ندوته هي الشعلة الوحيدة المضيئة وسط الظلام الرهيب الذي كان يومئذ يخيم على مصر.
ولم يدرك الشيخ أنه بمسلكه هذا يشعل النار في قلب الخديو الجالس على العرش، فكيف يجرؤ رجل مصري من طبقة فقيرة ومعمم على الظهور في موكب ولا موكب الخديو.
ولأن الهيافة ليس لها حدود فقد أصدر الخديو فرماناً بأن يكتفي الشيخ بزوج واحد من الخيول يجر عربته، وتصادر العربة والأحصنة إذا أصر الشيخ على الظهور في نفس الموكب.
آثر «ندا» أن يتحاشى حماقة الخديو فاكتفى بحصانين اثنين لجر عربته، ولكن بقدر نقص أحصنته ازدادات شعبيته، وصار واحداً من أعلام مصر، ونجماً من نجوم المجتمع الذي يتردد على صالونه زبدة أهل مصر، ويقف على بابه أصحاب الحاجات، وكان أجره قد وصل إلى 100 جنيه ذهباً عن كل ليلة، وكان يحلو له أحياناً نثر الجنيهات الذهبية تحت أقدام أحفاده.
الشيخ و«الست»
كان «ندا» من أوائل من التفتوا إلى موهبة أم كلثوم. وكان يُطرب لصوتها، وكانت هي الأخرى تحب سماعه وتطرب لطريقته الفذة في الأداء. وقد أحيت «الست» حفل زواج ابنه محمود ندا، ورفضت أن تتقاضى أي أجر.
ولسوء الحظ أن الشيخ أحمد ندا رفض بشدة تسجيل القرآن على اسطوانات لأنه كان يرى أن هذه الاسطوانات لا يليق أن تحمل كلام الله، فالناس تتداولها وتحملها بأيد قذرة وتلقي بها أحياناً على الأرض.
ولا يعرف كثيرون أن هذا الشيخ الذي توفى عام 1932 هو جد الفنانة شريفة فاضل والفنانة سناء ندا.