ابن سينا.. الشاب العبقري الذي كتب «إنجيل الطب»
يحترم العالم الغربي عددًا من علماء الشرق، يحتفظون بالمخطوطات النادرة لهم ويشهدون ببراعتهم. ومن هؤلاء الجهابذة يعلو ذكر ابن سينا، والذي قال عنه السير «ويليام أوسلر» أهم أطباء الغرب «لقد كتب الإنجيل الطبي لأطول فترة من الزمن».
كيف أصبح ابن سينا واحدًا من أعظم علماء المسلمين في عدد من العلوم؟، حتى وضع الغرب صوره على طوابع بريدهم احتفاءً به؟. إليك جانبًا من طفولة وشباب «الشيخ الرئيس» كما يُلقب.
هزم أستاذه طفلاً
يعود أصل ابن سينا أو اسمه الأول «الحسين بن عبد الله» إلى مدينة «بلخ» الواقعة في أفغانستان حاليًا، لكنه ولد في «بخارى» بطاجيكستان سنة 980 من الميلاد ونشأ فيها، حفظ القرآن في سن العاشرة مع بعض الأدب وأصول الدين والجبر والمقابلة.
حين مر الفيلسوف المعروف، أبو عبد الله الناتلي بمدينة «بخارى» ذهب ابن سينا الصغير بأمر من والده إلى منزله كي يتعلم منه، ولم يلبث التلميذ أن وصل سن الصبا حتى ناقش أستاذه في مسائل فلسفية ومنطقية اختلف فيها أفلاطون وأرسطو.
هنا عرف «الناتلي» أن تلميذه النجيب قد تلقى كل ما عنده من العلم وتفوق عليه أيضًا، فاستأذن منصرفًا ليطوف بالبلاد كما يفعل الدراويش المتفلسفين في زمانه، واستكمل الفيلسوف الصغير ابن سينا دراسته.
حب العلم
في أعوام الشباب، استطاع ابن سينا أن يبلغ في كل ما وجده من علوم الحكمة والمنطق والرياضة، وجمع بين العلم الديني والدنيوي، لكن هذا لم يأت من فراغ.
في دراسة «العقاد» عنه، ورد أن ابن سينا لم يكن ينام ليلة كاملة أثناء طلبه للعلم، فقد كان يقضي النهار كله في القراءة والمطالعة، وحين يغلبه النوم كان يرى المسائل العلمية في أحلامه وكأن عقله يرفض التوقف عن التفكير.
حين قرأ ابن سينا كتاب «ما بعد الطبيعة» للفيلسوف أرسطو لم يفهم شيئًا، لدرجة أنه قرأه أربعين مرة حتى حفظه لكنه لم يعرف بالضبط ما المقصود فيه، ثم اشترى بالصدفة كتابًا للفيلسوف «الفارابي» يشرح فيه ألغاز كتاب أرسطو، هكذا قرأه ابن سينا وفهم كل شيء دون الرجوع للكتاب الأصلي الذي حفظه.
كان من عادته إذا تحير في مسألة علمية أن يذهب إلى الجامع ويصلي ويبتهل إلى «مبدع الكل» كي يفتح عليه وييسر له الصعب، واشتهر ابن سينا أنه لم يكن يصعب عليه إلا الفلسفة الإلهية أو أبحاث ما بعد الطبيعة.
نبوغه في الطب
بعد مرور ابن سينا على أنواع شتى من العلم تفوق فيها وأضاف إليها، وجد لديه رغبة شديدة في الطب، فبدأ يقرأ المراجع المعروفة فيه في سن الخامسة عشرة فقط، وقال وقتها «إن الطب ليس بالعلم الصعب».
بالفعل صار الطبيب الشاب نابغة في زمانه واشتهر في آفاق الشرق بتعليم الطب في سن السابعة عشرة فقط، وجاء إليه الطلبة يسألونه خبراته، وكان يعلمهم ويعالج المرضى حبًا للخير واستفادة للعلم لا لطلب الثروة.
في هذه السن الصغيرة استطاع ابن سينا أن يعالج الأمير نوح بن منصور الساماني رغم فشل أشهر الأطباء في ذلك، فسمح له الأمير بالإطلاع على مجموعته العظيمة من الكتب التي خزنها في عدة بيوت لكثرتها.
جمع الطبيب النابغة خلاصة العلوم من كتب الأمير، والتي اشتهر أنها فريدة من نوعها بلا مثيل في أي مكتبة أخرى، حتى قيل ان ابن سينا نفسه أحرقها كي لا يشاركه أحد في هذه الأسرار.
الطبيب النفسي في السينما.. أرجوك لا تأخذ هذا الدواء
التركة العظيمة
استكمل ابن سينا حياته الصاخبة بعد الثامنة عشر بين التأليف والسياسة والاندماج في الشهوات حتى مات في سن صغيرة، لكنه أراد هذا بشكل ما فكان يقول «أفضل أن أعيش حياة قصيرة عريضة بدلاً من حياة طويلة ضيقة»
على الرغم من انشغاله كطبيب ناجح إلا أن سرعته في الكتابة جعلته يترك 450 مؤلفًا في مواضيع مختلفة تشمل الرياضيات والطب وعلم النفس والفلسفة والموسيقى والفلك وغيرها، لكم لم يصلنا منها سوى 240 كتاباً فقط منها 150 في الفلسفة و40 في الطب.
قيل أنه أول طبيب لقب بالحكيم، وهي تسمية ظلت تطلق على الطبيب حتى اليوم، وحين أصابه المرض في آخر حياته عالج نفسه مرة بعد مرة حتى أدرك استحالة العلاج وأهمل نفسه ثم تاب وتصدق بما معه عن الفقراء وأعتق مماليكه ومات في سن الثامنة والخمسين سنة 1037.
من أشهر مؤلفاته في الطب كتاب «القانون» بأجزائه الخمسه، طبعته أوروبا سنة 1593 مترجمًا إلى اللاتينية كما طبع في الهند وفي بلاد أخرى، وظلت جامعات أوروبا تتدارسه حتى أواخر القرن الـ17، لهذا وصفه أشهر أطباء الغرب «ويليام أوسلر» أنه بمثابة إنجيل الطب.