العقاد.. صاحب «العبقريات» الذي عاش وحيدا بين الكتب
صباح الجمعة 13 مارس عام 1964، تصدرت الصحف خبرا كارثيا على الأدب العربي الحديث، كل من كان يهوى القراءة شعر بالفقد، حتى وإن لم يلتق يوما به. كان خبر وفاته مفاجئا وصادما، حين أُعلن عن وفاة «صاحب العبقريات».. وفاة الأديب عباس محمود العقاد.
قبلها بثلاثين عاما، وتحديدا في أحد أيام ابريل 1934، كان مسرح حديقة الأزبكية يعج بكبار الأدباء والمثقفين، بجانب مجموعة من الأعلام والوزراء، حين اعتلى عميد الأدب العربي المسرح؛ لإلقاء كلمته في حق الأديب الذي يُكرّم.
قال طه حسين: «أجد عند العقاد ما لا أجده عند غيره من الشعراء؛ لأني حين أخلو إلى شعره، فإنما أسمع نفسي، وحين اسمع شعره، اسمع الحياة المصرية الحديثة، وأتبين المستقبل الرائع للأدب العربي الحديث».
عاش العقاد حياته كلها وحيدا، طوال 74 عاما لم يرافقه سوى كتبه وأوراقه، كانت القراءة رفيقة دربه، لم تفارقه ولم يفارقها. يُقال أن الابن هو الذي يحمي اسم العائلة من النسيان، إلا أنه تمكّن من تخليد اسمه دون ولد، بمجموعة من الكتب والدواوين حملت اسمه، وبلغ عددها نحو 100 كتاب، أشهرها كتب العبقريات، يمكنك الاطلاع عليها من.
أنا لا ألومُ ولا أُلَام .. حسبي مِنَ الناس السلام أنا إن غنيـتُ عن الأنام .. فقد غنيت عَن الملام
رغم أنه قائل تلك الأبيات، إلا أنه اشتهر بمعاركه الأدبية والفكرية مع الأدباء في عصره، مثل معركته مع أمير الشعراء أحمد شوقي، والدكتور زكي مبارك والرافعي وبنت الشاطئ عائشة عبدالرحمن، حتى أنه أصدر كتابا مع المازني بعنوان «الديوان» يهاجم فيه شوقي، وكان هذا الكتاب نواة مدرسته الشعرية التي أسسها.
«الإنسان يا مولانا يقضي العمر كله يحاول ألا يكون مجنونا».. هكذا آمن العقاد، وربما هذا ما دفعه لترك الوظيفة الحكومية ليتفرغ للعمل بالصحافة. يقول «ومن السوابق التي أغتبط بها أنني كنت -فيما أرجح- أول موظف مصري استقال من وظيفة حكومية بمحض اختياره، يوم كانت الاستقالة من الوظيفة والانتحار في طبقة واحدة من الغرابة وخطل الرأي عند الأكثرين».
كان «العقاد» دائم الاعتماد على نفسه وذكائه الحاد، في بداية حياته لم يتلق تعليما بعد المرحلة الابتدائية، إلا أنه اعتمد على نفسه وعَمد إلى قراءة كل ما تطاله يده من الكتب، وعلّم نفسه اللغة الإنجليزية من مخالطة السائحين في أسوان، حيث وُلد، ومع الوقت أصبح العقاد موسوعة متحركة لا تُضاهى.
يرى العقاد أن فلسفة الحياة تتلخص في بضعة سطور «غناك في نفسك، وقيمتك في عملك، وبواعثك أحرى بالعناية من غاياتك، ولا تنتظر من الناس كثيرا تحمد عاقبته بعد كل انتظار»، وانطلاقا من هذا، فقد ناصب العقاد القصر الملكي العداء، حتى أنه سُجن لمدة تسعة أشهر عام 1930 بتهمة العيب في الذات الملكية.
وهو في السابعة والعشرين من عمره، أصدر أول ديوان له بعنوان «يقظة الصباح»، ونشر عام 1916، إلا أن أكثر فتراته انتعاشا كانت حين تعطلت جريدة الضياء عام 1936، حيث ألف فيها 75 كتابا، بجانب حوالي 15 ألف مقالة تقريبا.
«إيماني بالأدب أنه رسالة عقل إلى عقول، ووحي خاطر إلى خواطر، ونداء قلب إلى قلوب، وأن الأدب في لبابه قيمة إنسانية وليس بقيمة لفظية» كان هذا قوله، ورغم أنه لم يتزوج يوما، إلا أنه كتب في الحب، حتى أن كتابه «سارة»، الذي ضم سلسلة مقالات عن مواقف في الحب يعد أحد أشهر كتبه.
يقول رئيس تحرير مجلة الهلال طاهر الطناحي، التي كان يكتب فيها العقاد، أنه قد اقترح على العقاد كتابة سيرته الذاتية وهو في السابعة والخمسين من عمره، فوافق الأخير، وارسل له مقالات متفرقة عن حياته.
«كان أول ما كتبه بعد هذا الاتفاق مقال إيماني، ثم مقال أبي، إلى آخر ما كتبه من الفصول التي قاربت الثلاثين فصلا، فأخذت في جمعها، وضممت إليها خمسة فصول نشرتها مجلات أخرى، وما كدت انتهي حتى مرض وعاجلته المنية، فرأيت من الوفاء له أن أنشر هذا الكناب واخترت له عنوان أنا».
«إذا فاجأني الموت في وقت من الأوقات، فإنني أصافحه ولا أخافه، بقدر ما أخاف المرض، فالمرض ألم مذل لا يحتمل، لكن الموت ينهى كل شيء».. هذا ما تمناه العقاد يوما الذي وتوفي في مثل هذا اليوم، الخميس 12 مارس عام 1964 بعدة فترة مرض لم تطل.
رحل العقاد وظلت ذكراه كشاعر وناقد، فيلسوف ومؤرخ، وسياسي.. وأديب تتلمذ على يديه الأساتذة زكي نجيب محمود وأنيس منصور وسيد قطب.