الطفل صالح حمدان.. أصغر جاسوس مصري شارك في نصر أكتوبر
شارك أبطال كثيرون في نصر أكتوبر 1973، منهم كبار رجال الجيش المصري من ضباط وجنود، ومنهم الجواسيس المحنكين في كواليس المعارك وحروب المعلومات.
أحد هؤلاء الأبطال لم يتجاوز عمره الـ12 عاما، ومع هذا استطاع تنفيذ مهمات حيوية ساعدت في النصر، ليصير «صالح حمدان مسلم» الطفل السيناوي أصغر جاسوس في مصر وربما العالم.
طفل عبقري
لم يكن الصبي البدوي «صالح» إلا راعيًا أميًا للغنم يعيش مع والديه في كوخ بسيط في سيناء المحتلة بعد نكسة 1967، في الوقت الذي سعى فيه الجيش المصري إلى زرع جواسيسه خلف خطوط العدو الإسرائيلي بكل طريقة للحصول على المعلومات.
هنا يظهر فجأة تاجر مخدرات من البدو اسمه «محمد علي كيلاني» ويطلب المبيت في بيت الصبي «صالح» مقابل مبلغ كبير من المال لأنه ينتظر شحنة مخدرات كبيرة، ليوافق والد الصبي على الفور.
في الأيام التالية يتحدث تاجر المخدرات «كيلاني» كثيرًا مع الصبي ويدرك أنه أمام غلام عبقري يتمتع بذاكرة قوية وذكاء فطري أكبر من عمره، وفي أحد الأيام سأله التاجر إذا كان يعرف حقيقته، فعبّر الصبي بصراحة عن شكه في أن «كيلاني» يخفي شيئًا ما أكبر من تجارة المخدرات.
تجنيد الطفل
اعترف «كيلاني» مباشرة أمام «صالح» الصغير بأنه ضابط مخابرات مصري وليس تاجرًا للمخدرات، ليجد الطفل يسأله بهدوء دون دهشة عن طلباته، ويبدأ الضابط فورًا في علمية تدريب وتجنيد الجاسوس الصغير.
بسرعة كبيرة استطاع «صالح» أن يستوعب كل دروس الضابط عن فنون الجاسوسية التي سيحتاجها في مهمته، كما حصل منه على عدد من الدجاج البياض حتى يتمكن من بيع البيض لجنود العدو كحجة من أجل دخول المعسكرات والتجسس عليها.
بدأ الصبي مهمته لينفذها على أكمل وجه، فقد صار يدخل المواقع الإسرائيلية ليعطيهم البيض مقابل علب اللحم المحفوظ أو المربى، غير أن الجنود أحبوه لشخصيته المرحة وصاروا يستقبلونه بكل ترحاب وينادوه بأنفسهم.
معلومات بالجملة
استطاع «صالح» استخدام عينيه وأذنيه في جمع أكبر قدر من المعلومات عن الثغرات في حقول الألغام، ومواقع المدفعية الثقيلة، وخزانات النابالم، والمولدات الكهربائية، بل حدد مواقع غرف الضباط وعدد حراس المواقع في الليل والنهار ونطاقات الأسلاك الشائكة.
هذا السيل المنهمر من المعلومات كان يصل لرجال المخابرات عن طريق الوسطاء أولاً بأول، ولم يتوقف عمل الصبي على الجاسوسية فقط، بل ساعد الفدائيين المصريين في المخابئ التي كانوا يسكنوها لفترات طويلة قد تقترب من ستة أشهر.
لم يقصر «صالح» في تزويد الفدائيين بالطعام والشراب، كما أزال آثارهم حتى يستحيل على العدو اقتفاء أثرهم، وأرشدهم في دروب سيناء ومسالكها المتوارية التي لا يعرفها إلا الأهالي مثله، مما أثار حيرة الجنود الإسرائيلين وغيظهم.
المهمة الأخطر والأعظم
لا تخلو مهمة كهذه من الصعاب والعقبات، فقد تلقى الصبي الكثير من مضايقات الجنود الصهاينة التي وصلت إلى درجة السب والضرب والصفعات، كما تعرض لشكوك والديه لأنه يخفي عليهم عمله، لكنه تحمل كل هذا بصبر، مستلهمًا من الضابط «كيلاني» التشجيع والدفع لإكمال مهمته.
وهنا كان «صالح» على موعد مع الجزء الأهم من عمله قبل شهر واحد من حرب أكتوبر، عندما أعطاه الضابط عددًا من القطع المعدنية الصغيرة ليضعها في حجرات قادة المعسكرات التي يزورها يوميًا، بأن يلصق وجهها الممغنط في الأجزاء المعدنية أسفل الطاولات الحديدية وأعلى الدواليب.
كانت خطورة المهمة في احتمالية كشف الصبي ثم إعدامه مباشرة، لكن الجاسوس الصغير لم يتردد وحقق النجاح المنشود بلصق القطع المعدنية التي لم تكن سوى أجهزة استقبال وإرسال بالغة الدقة، استمعت المخابرات المصرية عبرها إلى أحاديث وخطط قادة العدو.
ومع قيام الحرب، استطاعت القوات المسلحة معرفة تحركات المعسكرات بواسطة الأجهزة المزروعة، كما تمكنوا من تحديد مواقعها وقصفها بسهولة، بل وتوجيه إنذارات التسليم إليها بلا حرب.
استقبال «صالح»
مع نجاح جاسوس سيناء الصغير في مهماته، أسرعت المخابرات المصرية بنقله إلى القاهرة قبل الحرب بعشرين يومًا، خوفًا عليه من انتقام العدو حين يكتشفون خدعة أجهزة الإرسال، ولم تكن مهمة نقله سهلة بالطبع.
هكذا استقل الصغير طائرة الجيش مع والديه المذهولين إلى قرية «ميت أبو الكوم» التابعة لمحافظة المنوفية، ليجد الرئيس محمد أنور السادات في انتظاره شخصيًا لأن قرية «ميت أبو الكوم» ليست إلا مسقط رأس السادات.
صافح الرئيس الصبي بحفاوة بالغة وأخبر والديه عن بطولته النادرة التي تستحق الفخر، وظلت الأسرة على مائدة الرئيس حتى غروب الشمس ولم يتركهم إلا بعدما أمر مباشرة بالعناية بهم ورعايتهم.
كان «صالح» يتمنى رؤية الزعيم جمال عبد الناصر بشدة، لكنه لم يلحق بهذه الأمنية بسبب وفاة الزعيم قبل الحرب، هكذا عوضه لقاء الرئيس السادات وعوضه فخر والديه بعد معرفة الحقيقة.
أكملت المخابرات المصرية جميلها وتعهدت «صالح حمدان مسلم» بالرعاية حتى التحق بالكلية الفنية العسكرية وصار ضابطًا في نفس منصب الضابط «كيلاني» الذي جعل منه أصغر جاسوس في العالم.
أين «صالح» الآن؟
عادت قصة الجاسوس الصغير للأضواء على يد الكاتب المصري المتخصص في الجاسوسية نبيل فاروق، حين كتب عنها قصة مصورة عام 1998 بعنوان «جاسوس سيناء: أصغر جاسوس في العالم» فازت بجائزة «إبداع أكتوبر» لذلك العام.
في حديثه لـ«شبابيك» قال الدكتور نبيل إن قصة «صالح حمدان» نشرت لأول مرة في كتاب «المفاجأة» للكاتب العسكري ماهر عبد الحميد بعد حرب أكتوبر مباشرة، إلا أن الكتاب مُنع لما فيه من أسرار عسكرية، وظلت قصة الجاسوس مجهولة حتى خرجت للنور عبر القصة المصورة.
بسؤاله عن مصير الجاسوس الصغير ذكر الدكتور نبيل أنه صار خبيرًا أمنيًا في الجيش كما كتب في قصته وهذا هو كل المعروف عنه، أما ما ذكرته الصفحة المنسوبة للواء عمر سليمان عن اغتيال «صالح حمدان» سنة 1999 فلا أساس له من الصحة في الأغلب خاصة أن الصفحة ليست رسمية.