معلومات عن دوستويفسكي الباحث دائماً في أعماق الإنسان
يعتبر فيودور ميخايلوفتش دوستويفسكي واحداً من أعظم كتاب الرواية، فأعماله تتميز بقدرة على السرد تشد القارئ، وبتعبيرها القوي عن دواخل النفس الإنسانية، وقد عبر عن ذلك في عناوين رواياته التي تصف الإنسان في مواقفه وتصرفاته، ومنها «المقامر»، و«المراهق»، و«مذلولون مهانون»، و«الجريمة والعقاب»، و«الأبله».
ورغم مرور نحو مائة واربعين عاماً على وفاة دستويفسكي عام 1881، لكن كتاباته ما زالت تستحوذ على اهتمام قطاع كبير من قراء الرواية في العالم كله، فما السر في ذلك؟.
الإجابة قدمها الكاتب دانييل جرانين عام 1981، عندما كتب مقدمة للترجمة العربية لرواية «الجريمة والعقاب» لدوستويفسكي، والتي ترجمها للعربية سامي الدروبي، ووقتها كان العالم يحتفل بمرور 100 عام على وفاة دستويفسكي.
دوستويفسكي والنبوءة
يقول «جرانين»، لقد غيرت المائة سنة التي مرت منذ رحيل دستويفسكي اشياء كثيرة في ذهن البشرية، ولكن أعماله مرت عبر كل هذه التحولات من دون أن تُمنى بخسائر، بل على العكس، خرجت منها أكثر حداثة، بل واكتسبت طابعاً عصرياً ملحاً، غريباً في بعض الأحيان، وقد يبدو ذلك أشبه بالنبوءة.
إن كثيراً من المواضيع في روايتي «الأبالسة»، و«الأخوة كارامازوف»، تُقرأ كنبوءات، وهي من الكثرة بحيث يصعب اعتبارها صدفة، وكأنما قدمت عبقرية دوستويفسكي وحدست مجرى تطور البشرية.
إن دستويفسكي يساعدنا على إدراك استحالة معرفة الإنسان، ويطلعنا على لا محدوديته، وعلى فوضى مشاعره، ويرينا أي تناقضات وأي أعماق لا يمكن بلوغها تكمن في نفس الإنسان.
دوستويفسكي وقضايا الوجود
وبحسب «جرانين»، يصور دوستويفسكي بجسارة أناساً فقدوا الإيمان، وتخلى الإيمان عنهم، والسؤال الذي يعذبه دائماً هو: ماذا سيحدث للبشرية إذا لم يكن هناك إله؟، وماذا لو أن النزعة الإنسانية راحت تنقرض وتُفنى؟، وكيف نواجه ذلك وندفعه عنا؟، وما الذي يجوز للإنسان أن يفعله؟، وكيف يدور الصراع بين الخير والشر في النفس البشرية؟، ومن أين يأتي الازدواج والثنائية في الإنسان؟.. بالنهاية هو يدرس قضايا الوجود، والعذاب، والشر، والجريمة، والجنون، والأهواء، والمنفعة المغرضة.
لقد تميزت عبقرية دوستويفسكي الفنية بقوة فلسفية هائلة، فهو مهموم دائمًا بالقضايا الجذرية، الحاسمة، والأدب بالنسبة له وسيلة تفكير، والكاتب عنده لا يتمتع فقط بالقدرة على ملاحظة تفاصيل الحياة بألوانها وروائحها وكلماتها المميزة ودقائقها، بل وأيضًا بالتفكير المضني في مغزى الحياة، وتلكك هي قوة دوستويفسكي.
سيبويه.. قصة أشهر عالم نحو عرفته اللغة العربية
إن قراءة روايات دوستويفسكي أمر صعب، وأحياناً تثير الشعور بالضيق، فما السبب؟. يجيب «جرانين» في مقدمته، إن رواياته تخلو من المشاهد الطبيعية وليس فيها تلذذ بوصف الأحداث المرعبة وأعمال العنف المُقبضة، ومن هنا تبدو أحد جوانب عبقرية دوستويفسكي.
فالقارئ لدوستويفسكي قد ينتباه الخجل، وتأنيب الضمير، وهذه أعظم سمة من سمات عبقريته، ولذلك تصعب قراءته، فهو يجبر قارئه على أن يخجل ويستحي، كما أن دستويفسكي يقضي على كافة محاولات الهرب وتبرير الشر والفساد الخلقي، وما أبرعه في تصوير الدناءة والنفاق والرياء والقسوة.
ففي رواية «الجريمة العقاب» على سبيل المثال، يجبرنا على أن نتطلع إلى ما يكمن في نفوسنا، وان نعثر فيها على تلك الأهواء التي تعصف بأبطاله، وكيف أن النفس الإنسانية تحمل في آن واحد أسمى المثل إلى جانب أخط الدناءات، وكيف للإنسان يحمل في داخله قوة تنفيذ الجريمة ورغبة تحقيق العدالة.
بيتهوفن.. ابن السكير الذي ملك آذان عشاق الموسيقى
دوستويفسكي ومكانة الأدب الروسي
إن المكانة التي تبوأها الأدب الروسي إنما تعززت أساساً بفضل ماقام به دوستويفسكي من فضح لا يكل للرزائل والضلالات في المجتمع، ولم يشارك في هذا العمل دوستويفسكي وحده بل الأدب الروسي كله، والذي تحلى بشجاعة أن يقول لشعبه كلمات الغضب والحزن.
ويكفي الإشارة إلى أن إبداع دوستويفسكي يحفز الفكر، حتى أنه أثّر على أكبر الفلاسفة وعلماء النفس والعلماء في العالم، والكتب التي وضعت عن دستويفسكي تثير الاهتمام بما تتميز به من قيمة فلسفية وعلمية مستقلة.
وبالنهاية، يمكن القول أن دوستويفسكي كان خير تجسيد لمقولة أن الكاتب وحده هو الذي يستطيع أن يساعد الناس على اكتشاف حقائق جديدة عن أنفسهم، وبهذا المعنى كان دوستويفسكي وسيبقى مفخرة لروسيا وللأب الروسي والأدب العالمي، ولتاريخ الفنون كله.