حين نثر أطفال مصر الغبار في وجه الفرنسيين.. أسرار ثورة القاهرة الأولى
كان الزمان بعيدا للغاية يعود للعام 1798 وتحديدا في شهر أكتوبر، عندما اشتعلت في شوارع القاهرة ثورة عارمة، تُعرف بـ«ثورة القاهرة الأولى».
حشود ضخمة من عامة الشعب الفقراء، التجار، الملاك والأزهريون، لم يتركوا شارعا أو جامعا أو حتى أسطح المنازل، إلا وقفوا هناك مشهرين أسلحتهم في وجوه جنود الحملة الفرنسية وقائدها نابليون بونابرت.
ورغم أن الثورة اندلعت ضد الاستعمار، لكن المؤرخين يختلفون فيها؛ بعضهم يرى أنها لم تجلب سوى الخراب والدمار وقتل عامة الشعب الفقراء، وتدنيس الجامع الأزهر الذي اقتحمه نابليون بالخيول، فما قصة هذه الثورة وهذا الخلاف؟
التمهيد لثورة القاهرة
حالة هرج ومرج وصراخ الأطفال وعويل النساء ورجال يتخفون فوق الأسطح وينتشرون في الطرقات وهم يحملون ما يقدرون عليه من أسلحة؛ شوم وسكاكين وبنادق، يصيبون بها ما يستطيعون من جنود الحملة الفرنسية الذين تحولوا إلى مرتزقة يهجمون على القرى لسرقتها ونهبها.
«سرقنا بعض المواشي التي وجدناها في طريقنا»، هكذا يعترف الكابتن «سافاي» الذي ينقل الكاتب محمد فرج كلماته في كتاب «النضال الشعبي ضد الحملة الفرنسية».
من الأسكندرية والوجه البحري والقبلي، تتوراد الأنباء عن زحف «نابليون» وجنوده إلى القاهرة، ويشتعل المزيد من الخوف والغضب.
يسمع أهالي القاهرة حكاوي مرعبة، فنابليون دخل البلاد من خلال الأسكندرية واستطاع أن يقبض على قائد المقاومة الشعبية هناك محمد كُريّم ويعدمه.
ثم يزحف جنوده إلى قرى الوجه البحري التي تشتعل فيها المقاومة الشعبية وبعض الثورات الصغيرة، ويخرج الأهالي إلى الأسطح والطرقات محملين بالسلاح ومستعدين للقتال، أو يعلنون التمرد وعدم دفعهم للضرائب، وفي أقل الظروف يقوم النساء والأطفال بنثر الغبار في وجوه الجنود الفرنسيين.
«فالأهالي دائما ثائرون، ولا يخلدون إلى الطاعة، والعرب مزعجون على الدوام ونحن بحاجة لمزيد من الجنود»، كانت هذه رسالة القائد «سان فوست» إلى نابليون بعد أن اجتمع أهالي مدينة رشيد وقرروا فيما بينهم إقامة حكومة أهلية لمواجهة الفرنسيين.
وصفهن بـ«الغجر».. الرسائل الخاصة بين السادات وبناته
القاهرة تستعد للمقاومة
تصل كل هذه الأنباء إلى القاهرة وأهلها يعيشون في فزع. فبعد أن انتهى نابليون من مدينة رشيد، بدأ في التوجه إلى القاهرة. وهُزم مراد بيك حاكم مصر في معركة شبراخيت، ثم هُزم مرة أخرى في معركة الأهرام الفاصلة، التي حدثت في منطقة إمبابة، وهرب الحاكم يختبئ في قرى مصر.
دخل نابليون القاهرة في يوليو 1798 واستيقظ الأهالي ليجدوا منشورات مكتوب عليها:
«يا أهل مصر إنني مسرور من سلوككم وقد أحسنتم صنعا بعدم اشتراككم في العمل لمقاومتي»
«لقد أتيت هنا لأقضي على جنس المماليك وأبيده ولأحمي التجارة وحقوق البلاد الطبيعية»
وجد نابليون الأهالي مستائون وثائرون، فبدأ في استمالتهم بطريقته المعتادة، أعلن أنه لم يأتِ ليحاربهم وأنه يحترم عاداتهم وتقاليدهم، وعاقب الجنود الفرنسيين الذين ارتبكوا أعمال السلب والنهب في القاهرة، على عكس ما حدث في القرى.
هدأت نفوس الأهالي شيئا فشيئا بعد هذا الهلع الكبير. وبدأ القائد الفرنسي فورا في إصلاحات كثيرة؛ فقرّب إليه بعض رجال الأزهر، وأنشأ المستشفيات بسرعة كبيرة، وأصلح الكثير في النظم الإدارية والدواوين، وأقر حقوق الملكية وأمّن الناس على ممتلكاتهم وبيوتهم. لكن كل هذا لم يشفع له عندما قرر زيادة الضرائب على ملاك الأراضي وصغار المزارعين وأصحاب الحرف والصناعات.
يقول «فرج» في كتابه «النضال الشعبي ضد الحملة الفرنسية»: «كان كل هؤلاء في الأساس مثقلون بالضرائب والإتاوات المفروضة عليهم من قبل ولم يكن في مقدورهم تحمل المزيد».
اشتعال ثورة القاهرة الأولى
كانت زيادة الضرائب بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، فاشتعلت ثورة شعبية بدافع الشعور بالظلم. لكنها في نفس الوقت كانت تحمل الكثير من التدبير. قاد الجماهير شيوخ الأزهر، وخرجت جموع غاضبة تملأ الشوارع من الجامع الأزهر، والبيوت، والجوامع الصغيرة، وتتسلح بالشوم والسكاكين والبنادق والسهام والحِراب، كما سيطروا على جميع أبواب القاهرة؛ باب الفتوح، والنصر، وباب زويلة، وباب الشعرية، هكذا يصفها أحمد حافظ عوض مؤلف كتاب «نابليون بونابرت في مصر».
لكن شرارة الغضب لم تشتعل إلا بعد أن أطلق أحد رجال البوليس التابعين للحملة الفرنسية النار، وتحول الأمر من ثورة إلى حرب وأشهر العامة أسلحتهم المخبأة، «فجرى الدم في شوارع القاهرة بين الفريقين، فكان فاتحة حرب وخاتمة الدمار» كما يقول المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي.
ولم تكن القاهرة وحدها في هذه الثورة العارمة، فلم تكد أنباء الثورة تصل إلى الأقاليم المجاورة، حتى بدأ زعماء العرب والفلاحين بالقرى المجاورة في حث الأهالي على النزول للقاهرة. «سارع الفلاحون والبدو للتوافد على القاهرة بقيادة زعيم العرب والفلاحين في القليوبية شيخ العرب سليمان الشواربي، حتى إن أهل القاهرة قد كتبوا إليه يستنجدونه، ولكن استطاع نابليون أن يتصدى له ولعشيرته قبل وصولهم فانهزموا»، وفقا لكتاب «نابليون بونابرت في مصر».
- إخماد الثورة
حل المساء والدماء تتساقط والنساء يصرخن والأمهات يولولن، هكذا يصف «الجبرتي» المشهد بعد أن انتبه نابليون للثغرة التي تركها الثوار خلفهم. فقد تركوا التلال والمرتفعات خالية، فنصب فيها مدافعه التي وجهها نحو الثوار، فقتل منهم ثلاثة آلاف شخص، وضرب الجامع الأزهر، الذي خرجت منه الثورة، بالمدافع، ثم اقتحموا بخيولهم وكسروا محتوياته ومزقوا كتبه.
هل كانت ثورة مدبرة وعناصر مندسة؟
المؤرخون يختلفون كثيرا حول ثورة القاهرة الأولى، فكاتب مثل «محمد فرج» مؤلف «النضال الشعبي ضد الحملة الفرنسية» يرى أنها سبب من أسباب سقوط الحملة الفرنسية في مصر وعدم استمرارها أكثر من ثلاث سنوات، فالمقاومة لم تتوقف بعد الثورة الأولى، وأعقبتها ثورة القاهرة الثانية عام 1800.
لكن مؤرخ مثل «الجبرتي» يرى أن ثورة القاهرة الأولى لم تكن إلا بتحريض من المماليك، الذين فروا هاربين وتركوا الشعب للثورة التي جلبت الكثير من الخراب والدمار وشارك فيها بعض رجال الأزهر «الحقودين» الذين لم يحظوا بمكانة لدى نابليون بونابرت بجنب من «الغوغاء» والمرتزقة من المغاربة الذين امتلأت بهم القاهرة، انضموا بعد ذلك للحملة الفرنسية وشاركوا في حملاتها ضد القرى.
وإذا أضفنا إلى «الجبرتي» كلام مؤلف «نابليون بونابرت في مصر» الذي قال إن الغوغاء قاموا بأعمال السلب والنهب وسبي النساء خلال الثورة، فإن الصورة تصبح قاتمة للغاية.
لكن مؤلف «النضال الشعبي ضد الحملة الفرنسية» يقول إن المماليك استغلوا بالفعل حركات المقاومة الشعبية، وشجعوا بعضها وأشعلوا البعض الآخر، رغبة منهم في أن يستقر الحكم لهم وليس للفرنسيين. لكن النضال نفسه كان واقعا على عاتق المصريين فقط.