شعراء راحوا «فطيس».. أحدهم قتلته عائلته والآخر شبه الملك بالنساء
كانوا في يوم من الأيام شعراء كبارًا، يستطيعون بكلماتهم أن يصلوا إلى أهم الرجال في الدولة، الأمراء والخلفاء، لكن نهاياتهم جاءت من المضحكات المبكيات، بما لا يتناسب مع مكانتهم الأدبية الكبيرة.
فبسبب ذلة لسان، قتلتهم قصائدهم وأشعارهم؛ فأحدهم قتلته عائلته بسبب شعره، وآخر لم يعجب شعره قطاع الطريق فقتلوه. فما قصة كل منهم وماذا قالوا؟
هدبة بن خشرم
كان هدبة بن خشرم في طريقه للحج مع أخته فاطمة وابن عمه زيادة بن زيد، وخلال هذا الطريق الطويل، تغزل زيادة في فاطمة بأبيات من الشعر.
هدبة غضب غضبا شديدًا، وأراد أن يأخذ بثأره، فكتب شعرًا يتغزل فيه بأخت زيادة.
وأخذ كل شاعر منهما يتغزل في أخت الآخر والتشهير بها نكاية في ابن عمه. ثم أخذهما الطريق وأديا فريضة الحج وعادوا إلى الشام.
لكن هدبة لم ينسَ ما حدث خصوصا أن زيادة تغزل في أخته وهي حاضرة بينهم، فأخذ يتربص به حتى قتل ابن عمه.
وكان ممن قاله في أميمة أخت زيادة:
تذكر شجوا من أميمة منصبا .. تليدا ومنسابا من الشوق مجلبا
إذا كان ينساها الفؤاد ذكرتها .. فيالك من عنى الفؤاد وعذبا
غدا في هواها مستكينا كأنه .. خليع قداح لم يجد متنشبا
ولم تسكت أسرة زيادة وأصروا على الأخذ بالثأر من ابن عمهم. ورفض عبد الرحمن، أخو زيادة محاولات الخليفة معاوية بن أبي سفيان بإقناعه بالدية حتى إنه قد ضاعف له الأموال ليعفو عن هدبة، بعد أن أبدى ندما على فعلته، لكنهم لم يقبلوا إلا بالقصاص، فهدبة لم يقتل ابنهم فقط، وإنما قال شعرًا يهدد فيه جميع أبناء عمومته بالقتل
لتُجدعن بأيدينا أنوفكم .. ويذهب القتل فيما بيننا هدر
في النهاية قُتل هدبة، بسبب بيت الشعر الذي هدد فيه عائلته، كما يقول سمير فراج في كتابه «شعراء قتلهم شعرهم».
المتنبي
كان الشاعر الشهير أبو الطيب المتنبي يقف في مجالس الأمراء، فينشد القصائد التي يعاتب فيها هذا الأمير ويقلل من شأنه أو يتفاخر على أفضل شعراء عصره الجالسين أمامه، ولا يقدر أحد على أن يمسه بسوء.
فيقول متفاخرا:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي .. وأسمعت كلماتي من به صمم
والمتنبي يعاتب أمير حلب سيف الدولة الحمداني، ويصفه بأنه فقد التمييز بين الخطأ والصواب أمام الجميع، وبعد أن أوقع الوشاة بينهما، فيقول:
يا أعدل الناس إلا في معاملتي .. فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره .. إذا استوت عنده الأنوار والظلم
وعندما يئس المتنبي من مصالحة سيف الدولة، سافر إلى مصر ليمدح حاكمها كافور الإخشيدي حتى ينال منصبا في الدولة.، ثم هجاه المتنبي بقصائد قاسية مليئة بالعنصرية يصفه فيها بالعبد الأسود لأنه رفض أن يعطيه المنصب:
لا تشترِ العبد إلا والعصا معه.. إن العبيد لأنجاس مناكيد
ما كنت أحسبني أبقى إلى زمن.. يسيء بي فيه كلب وهو محمود
ورغم كل هذا لم يستطع هؤلاء الحكام الإساءة إلى المتنبي، وكان مقتله بسبب قصيدة هجا فيها قاطع طريق يسمى ضبة الأسدي.
فعندما قُتل والد ضبة، هرب وتركه ولم يقتص له، رغم الجرائم التي ارتكبها لترويع الناس، فقال المتنبي قصيدة يهجوه فيها بأمه فقال:
ما أنصف القوم ضبة.. وأمه الطرطبة
رموا برأس أبيه .. وباكوا الأم غلبة
وما يشق على الكلب .. أن يكون ابن كلبة
يا أطيب الناس نفسا.. وألين الناس ركبة
وأرخص الناس أمًا.. تبيع ألف بحبه
وبسبب هذه القصيدة غضب خال ضبة غضبا شديدا وتربص بالمتنبي حتى قتله انتقاما لأخته. وهكذا كانت نهاية الشاعر الأسطورة نهاية مؤسفة للغاية، كما يصفها «سمير فراج» في كتابه «قصائد قتلت أصحابها».
وضاح اليمن
كان يسمى عبد الرحمن بن إسماعيل، وكانوا يطلقون عليه «وضّاح» لشدة جماله.
ولأنه كان شاعرًا وسيما فقد وقعت النساء في غرامه، حتى إنه كان يرتدي قناعًا حتى يتجنب النساء.
ولكن جمال «وضاح» تسبب في مقتله، فقد أحبته أم البنين زوجة الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، وطلبت منه أن يقول فيها شعرًا.
فكان وضاح يمدح الخلفية وجهًا لوجه ويخرج من عنده ليقول شعرًا في زوجته يتناقله الناس في الخفاء، ثم يكثر هذا الشعر حتى يصل للخليفة الذي قرر قتله.
يقول:
صدع البين والتفرق قلبي.. وتولت أم البنين بلبي
ولقد قلت والمدامع تجري.. بدموع كأنها فيض غرب
جزعا للفراق يوم تولت.. حسبي الله ذو المعارج حسبي
هناك رواية تقول أن علاقة وضاح بأم البنين وصلت إلى الحد الذي كان يذهب إليها في القصر وداخل غرفتها.. وعندما يدخل إليها أحد الخدم كانت يختبئ في صندوق مغلق.
وذات يوم رأى أحد الخدم وضّاح وهو يختبئ في الصندوق فأخبر الخليفة، الذي أخذ هذا الصندوق وأغرقه في بئر.
الرواية الأخرى تقول أن قصة وضاح اليمن مجرد أسطورة، فلا يعقل أن تنشأ علاقة بين زوجة الخليفة وشاعر ويتسلل إلى القصر بهذا الشكل، ولكنها أسطورة اختلقها الفرس لأسباب سياسية وللانقاص من شأن الخلفاء الأمويين الذين كانوا يضطهدون غير العرب، كما يقول الدكتور طه حسين في كتابه «حديث الأربعاء».
بشار بن برد
لم يكن بشار بن برد راضيا عن أي شيء في عصره، لا الشعب ولا الحكام، فلم يسلم أي شاعر من هجاءه، لا الشعراء مثله ولا أي شخص في الدولة ولا الخليفة المهدي نفسه.
كان بشار شاعرا كفيفيًا، ولكن مثل شعراء عصره كان يذهب إلى الخلفاء وكبار رجال الدولة ليمدحهم وينال الأموال الكثيرة. لكن إذا لم يعطوه المال الذي يحلم به، فإنه يهجوهم.
يقول في هجاء الوزير يعقوب بن داوود الذي يتهمه بالبخل:
ظل اليسار على العباسي ممدود .. وقلبه أبدا في البخل معقود
إن الكريم ليخفي عنك عسرته .. حتى تراه غنيا وهو مجهود
وللبخيل على أمواله علل .. زرق العيون عليها أوجه سود
وفي قصيدة أخرى يهجو فيها الوزير نفسه:
بني أمية هبوا طال نومكم .. إن الخليفة يعقوب بن داوود
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا .. خليفة الله بين الزق العود
فكأنه في هذه الأبيات يلمح إلى تحكم الوزير في الخليفة، وكأنه أصبح الحاكم بدلا منه؛ ثم ينتقد هذا الوزير الذي ينغمس في الملذات بين الزق «الخمور» والعود.
كان الوزير يتيحن الفرصة للإيقاع ببشار، حتى هجا الخليفة المهدي بأبشع الألفاظ، فقال عنه أنه: «خليفة يزني بعماته».
فأحضره المهدي وأمر بضربه سبعين جلدة ثم إلقاءه في الماء حتى الموت.
طرفة بن العبد.. شبه الملك بالنساء
كان طرفة بن العبد شاعرًا فقيرًا يحلم بالثراء ومصاحبة الملوك. وعندما تحقق ما أراده بسبب موهبته الشعرية وقربه ملوك العرب إليهم، لم يمهله القدر لينتعم كثيرا بثراءه فقتله أحد هؤلاء الملوك وهو لم يتجاوز السادسة والعشرين من عمره.
طرفة هو أحد الشعراء الجاهليين الكبار وأصحاب المعلقات. ورغم موهبته الشعرية الكبيرة، فقد عاش ظروفًا صعبة في صغره، فقد مات والده وهو طفل صغير ثم استولى أعمامه على ميراثه من أبيه.
وذات يوم سرق طرفة المال من بعض أقاربه، فلما عرفوا بذلك، طردوه. لكنه بسبب شعره استطاع أن يجمع به المال وأن يمدح الملوك حتى وصل لأهم ملك عربي في ذلك الوقت وهو عمرو بن هند وأصبح نديما له.
ولم يمض وقت كثير حتى هجا طرفه عمرو بن هند وشبهه بالنساء، فهو لا يرى فيه أي خير ولا يصاحبه إلا من أجل أمواله، فقال:
ولا خير فيه غير أن له غنى .. وأن له كشحًا إذا قام أهضما
كأن السلاح فوق شعبة بانه.. ترى نفخا ورد الأسرة أسحما
ويعني أنه له خصر «كشح» رشيق مثل النساء يتمايل به كما تتمايل غصون الأشجار.
وانتهت حياة الشاعر الشاب بعد أن أرسل له عمر بن هند من يقتله.