هكذا بنى خيري شلبي طريقه الأدبي على أشواك «الترحيلة»
نظارة طبيبة تخفي ورائها عيون تجلس تحت جبهة خالية من الشعر تماما، إلا من خيط غليظ اشتعل شيبا يلتف حول رأسه، ليشكل «بورترية» يخبر عن وقار الريف وثقافة المدينة، ليبدو خيري شلبي كمصري بسيط نزح من قعر الريف وفقره ليبحث عن فرصة في دنيا المثقفين بالقاهرة، أو كما يسميها أبناء قريته «مصر المحروسة».
البداية لم تكن تنبأ أبدا بالنهايات، فلم يكن يعلم خيري شلبي، بعد مولده في قرية شباس عمير، الواقعة بالقرب من الضفة الشرقية لفرع رشيد بمركز قلين، محافظة كفر الشيخ، أن حكايات المهمشين والصعاليك الذين عاش معهم، واندس في وسطهم فوق عربات نقل الأنفار ستقوده للعالمية ليصبح أحد أهم رواد الرواية، وكتاب السير.
أب مسن لـ17 ابن
في الليلة الأخيرة من يناير عام 1938، جاء خيري شلبي للدنيا لكن على عكس المتوقع لم تبتسم له بل تجهمت وكشرت عن أنيابها، لكنه رغم ذلك يعتبر أن قلة المال وصعوبات الحياة كانت منحة إلهية له، حتى أنه ينصح شباب الكتاب والأدباء الجدد بالعمل والتعرف على الحياة على أرض الواقع، والتعرف على تفاصيل حياة الناس من خلال الاحتكاك بهم.
في عام 2006، وبينما شلبي في عز مجده الأدبي روي لرواد معرض القاهرة الدولي للكتاب، حكايته منذ البداية حسب ما نقلته صحيفة الاتحاد الإماراتية وقتها، ففي بداية الثلاثينيات من القرن الماضي تزوج أبوه للمرة الثالثة، بعدما فشل مرتين بسبب عدم الإنجاب.
كل ما يقال عن تعديل مواد الدستور المصري
في أواخر عمره تزوج أحمد شلبي بصبية عمرها 12 عاما، لكنها أنجبت له 17 طفلا ليجد الأب نفسه في مأزق آخر فهو بحكم السن أقرب للموت، لكن كتب عليه أن يبدأ حياة جديدة، وكان همه الكبير ليس تعليم هذا الكم الكبير من الأطفال لكن فقط إطعامهم.
خيري يقول إن الحياة حكمت على الإخوة بأن من يريد أن يواصل تعليمه فعليه أن يعتمد على نفسه، لذا قرر وهو في الصف الأول الابتدائي الدخول في دوامة العمل مبكرا.
«فلاح ونفر ترحيلة»
لم يكن جسد الطفل خيري شلبي يتحمل إلا أعمال الفلاحة، لذا التحق بعمال التراحيل الزراعيين، يرتحلون في الصباح من قريتهم للعمل في أي مكان وتحت أي ظروف: «كنت أحمل زوادتي على ظهري، وأسافر لبلاد بعيدة للبحث عن عمل» ·
ليس هذا فقط بل عمل خيري شلبي في غالبية المهن التي عرفها أهل الريف والمدينة معا، فعمل بائع متحول «سريح» ثم صبي ترزي، ومكوجي، وقهوجي، ومنها للعمل في الصناعات اليدوية القاسية مرة كنجار وأخرى حداد، ثم ينتقل للوظيفة الميري ليعمل كمسري في هيئة النقل العام، لكن في غمار كل هذه الأعمال القاسية لم يتخل خيري شلبي أبدا عن القراءة.
تجربة العمل مع العمال والحرفين أثقلت موهبة شلبي وساعدته على ترجمته أفكاره ليسرد أعظم روايته، التي يتحدث فيها عن العمال والمزارعين في روايتيه «الاوباش'، والسنيورة».
شلبي يقول عن هذه الفترة إنها كانت أخطر تجربة في حياتي، وأفادتني كثيرا في الكتابة الروائية، فوسط العمال كشفت لي أسرار السير الشعبية، وعرفت أنهم أبطالها الحقيقين، ورغم أن العمال فقراء معدومون، أميون لا يعرفون القراءة إلا أن قرائحهم تنتج الحكمة والفن، وهم في الغالب لا يتنازلون عن قيمهم وأخلاقهم في سبيل تحقيق أي مكسب.
ومن الناحية الأدبية تعلم خيري شلبي من عمال التراحيل فنون التعبير وكيف أن اللغة، وهي أداة التوصيل والتواصل، يمكن أن تكون عامل تفرقة، فقد كان الوحيد بينهم الذي يعرف القراءة والكتابة، وكنت أقوم بشكل شبه يومي بكتابة رسائلهم إلى ذويهم.
كان العمال يصرون على أن يكتب خيري بالعامية بحسب منطوقهم هم، وكان لكل واحد منهم أسلوبه الخاص، ومن ذلك اقتنع شلبي بأن الكاتب لا يصوغ آلام الناس ومشاعرهم باللغة العربية الفصحى، لكن بلغتهم هم.
متعة مفقودة
تحتفظ المكتبة العربية بـ70 كتابا لخيري شلبي كلهم يتحدثون عن الأدب، ما بين رواية ومسرحية وبورترية، لكن كلها كانت نتاج تعب سنوات حتى أن خيري شلبي يقول إنه لم يستمتع ولو مرة واحدة بكتاب جديد أنتجه، فكان في كل مرة يعاني الأمرين حتى ينتهى من العمل الذي بيده سواء كان رواية أو كتاب، وفي بعض الأحيان كان يستدين ليستطيع إصدار كتابه.
حدث ذلك مع شلبي الذي يعتبر من أوائل من كتبوا ما يسمى بالواقعية السحرية، فلم يجد في بداية حياته ما يعينه على طباعة أول كتبه، واضطر للاستدانة ووقتها أعطاه الكاتب محمد الحوفي 10 جنيهات لكي يستطيع طباعة قصته الأولى.
فصل من الدراسة
بينما كان خيري يستقبل خبر طباعة قصته الأولى استقبل خبر آخر غير سار حيث قررت إدارة معهد المعلمين بدمنهور فصله عن الدراسة، ليتجه بعدها إلى الإسكندرية ومنها إلى القاهرة، ليبدأ عمله في مجلة الشهر، وقت أن كان رئيس تحريرها سعد الدين وهبة، ثم مجلة المسرح، ليدخل منها إلى عالم الصحافة.
تخلى عن الشهرة.. خيري يقدم نصائحه
في حديث له قبل وفاته بسنوات منشور على موقع يوتيوب سجل بشكل غير احترافي، يقدم خيري شلبي عدة نصائح لشباب الكتاب أولها أن يكدح كل منهم في الحياة قدر ما يستطيع ويتخلى عن المظاهر الخداعة التي يدخلون فيها بمجرد الوصول للقاهرة والتسكع على مقاهيها في وسط البلد، وأن يتخلى عن الشليلة في عمله.
وينصح شلبي الكتاب الشباب بالابتعاد عن الشهرة والندوات الثقافية التي تقام على حسابهم، لأنها تقل الطموح فعندما تكثر الأخبار في الصحف عن الكاتب فهي أول طرق الانطفاء.
وينصح بأن يشارك الكاتب المجتمع الذي يريد أن يكتب عنه في تفاصيل حياته، حتى ان يرى أن اللجوء للإنترنت كمورد ثقافي للأديب ليس أمرا محمودا وإن كان مفيد في بعض الأوقات إلا أن الكتابة الواقعية فيها روح أخرى لا يستطيع أن يصل لها إلا من جرب وتعايش واحتك.
ويشير إلى أن أحد الكتاب عندما أراد أن يكتب عن العمال في المحاجر، ذهب وعمل معهم لمدة تجاوزت الشهر حتى يتعرف على معاناتهم وآلامهم وأفراحهم، لأن الذاكرة لا تعطي الأديب كل ما يريد، لكن التجربة تعطيه خيالا واسع وصادق.
جوائز خيري شلبي
رغم عدم اهتمامه بالجوائز الأدبية والماراثونات التي تحدث حولها إلا أن خيري شلبي حصل على عدد من الجوائز التقديرية حتى أنه رشح لنيل جائزة نوبل في الأدب ومن أبرزها الجوائز التي حصل عليها جائزة الدولة التشجيعية في الآداب عام 1980- 1981، ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى 1980 — 1981، وجائزة أفضل رواية عربية عن رواية «وكالة عطية» 1993، وجائزة أفضل كتاب عربي من معرض القاهرة الدولي للكتاب عن رواية صهاريج اللؤلؤ 2002، وجائزة الدولة التقديرية في الآداب 2005.