ثورة 1919
التنظيم السري المسلح لثورة 1919.. الإنجليز يقعون في فخ الشاب الرومانسي وماء البصل
في نهاية شهر نوفمبر من العام 1918، بينما العالم يلملم جراح الحرب العالمية الأولى، التي وضعت أوزارها للتو، كانت مصر تشهد ميلاد أكبر حركة شعبية في تاريخها الحديث، وبالتزامن مع ذلك حملت رياح الثورة حركات سرية نشأت لمواجهة المحتل، وأخرى علنية سليمة، اجتمعت كلها تحت قيادة ما يسمي بـ«التنظيم السري لثورة 19».
بإعلان الأحكام العرفية بمصر، وسيطرت الإنجليز على كل شيء، كان الواقع المصري يقترب من الغليان، لكن فكرة لاحت لثلاثة رجال كانت سببا في الخلاص الجزئي من سطوة الإنجليز. ما يجهله البعض أن ثورة 1919 لم تكن سلمية، بل قاد «سعد» ورفاقه تنظيمًا سريًا.
دوما ما توصف ثورة 1919 بأنها كانت سلمية، لكن التاريخ يكشف أن سعد زغلول شكل نظاما سريًا مسلحا، واستغل هذا التنظيم كل ما وقع في يده للتواصل بينه وبين زعيمه في المنفي وأعضائه في الداخل، ونجح في إرغام الاحتلال والقصر على قبول مطالب الوفد مرة بالسياسة وأخرى بإرهاب السلاح.
ضابط جيش قائدًا للتنظيم
كلمة السر في نجاح التنظيم السري للثورة كانت عبد الرحمن فهمي، وهو ضابط جيش سابق، وصل لرتبة يوزباشي، ثم عين مأمورا لقسم سمالوط، في المنيا، وبعدها وكيلا لمديرية القليوبية، ثم مديرا لبني سويف، ثم الجيزة، وهو أحد أعضاء الوفد فيما بعد، حيث كان هو المسؤول الرئيسي عن التنظيم وعن تحركاته، وأعضاؤه وتمويله.
فروع التنظيم المسلح
يقول الكاتب الراحل مصطفي أمين، في الجزء الأول من «الكتاب الممنوع» الصادر في 1963، إن التنظيم السري للثورة، انقسم لعدة فروع، فكان يضم «فرع مخابرات الثورة وكان للثورة عملاء في كل مكان، في قصر السلطان، وفي درا الحماية البريطانية، وفي قيادة جيش الاحتلال، وفي مجلس الوزراء، وفي مكاتب الأحزاب السياسية، وفي الخارج كان له عيون في بريطانيا- سويسرا- إيطاليا- باريس».
وتمتع هذا الجهاز كما يقول مصطفي أمين بسرية محكمة فكان كل فرد فيه لا يعرف زملائه، كما أن كل إدارة لا تعرف باقي الإدارات.
المثير أن الإنجليز لم يتمكنوا من حيازة دليل واحد على تورط «فهمى» فى إدارة الجهاز السرى للثورة لكن شكوكهم دفعتهم إلى تلفيق قضية له ومحاكمته عسكرياً مع 27 مصرياً بتهمة تأسيس جمعية للانتقام السياسي، وحكموا عليه بالإعدام، ثم خفف الحكم إلى الاشغال الشاقة.
تطورات الاحتجاج في مصر.. من ثورة 19 لـ«أطفال شوارع»
حرب القنابل والاغتيالات
استطاع الجهاز السري أن يفجر أحداثا ضخمة في القاهرة، خصوصا عقب اعتقال زعماء الوفد في مارس 1919، كان معظمها في غياب سعد زغلول الذي كان منفيا في مالطة وبعدها في جزيرة سيشل، عن طريق المراسلة التي كان بطلها شاب مصري، ورسائل علمية كانت ترد لجامعة القاهرة القديمة.
حتى أن اللورد جورج لويد، المندوب السامي البريطاني لمصر، يقول عن التنظيم الخفي للثورة، في مذكراته، «أشعل اعتقال سعد زغلول وزملائه الثلاثة نيران غضب في القاهرة، فترك الطلاب مدارسهم، والعمال أضربوا عن العمل، وعزلت القاهرة عن باقي الأقاليم بعد قطع التنظيم السري للثورة خطوط السكك الحديدية، وخطوط التلفون والتلغراف، واشتعلت صدامات بين قوات الجيش البريطاني والمصريين في غالبية الأقطار من الإسكندرية حتى أسوان».
نجح التنظيم السري في اغتيال عدد كبير من قيادات الجيش الإنجليزي بمصر، وأيضا من المتعاونين مع الإنجليز من المصريين، مثل محاولة اغتيال محمد سعيد باشا، ويوسف وهبة رئيس الوزراء، وإطلاق الرصاص على حسن عبدالرازق باشا، وإسماعيل زهدي.
تواصل سعد وتنظيمه المسلح
يقول مصطفي أمين إن التنظيم السري نجح في فك كل إجراءات المراقبة الإنجليزية، ولم تنجح المخابرات البريطانية، أقوى جهاز استخباراتي في هذا الوقت، في كشف رسالة واحدة من التي كانت تصل من سعد أو إليه.
«رومانسي ابن حظ»
اختار عبد الرحمن فهمي، «أحد أبناء الحظ» كما يقول المصريون، الذين يحبون السهر والتسكع خلف الغانيات، ليكون همزة الوصل مع سعد زغلول في باريس، بعد أن وهم هذا الشاب أصدقائه بأنه يحب فتاة باريسية ولا يطيق الغياب عنها، ويحرص على زيارتها كل فترة في باريس، وبعد أن ينفذ ماله يعود للقاهرة من جديد ليجمع غيره ويعود لحبيبته، وفي هذه الأثناء يكون قد التقي بسعد في باريس وأبلغه برسائل فهمي، ويحمل منه تعليمات جديدة لقائد التنظيم في القاهرة.
مكتبة جامعة القاهرة
واختلق التنظيم أساليب كثيرة ومدهشة للتواصل بين القيادة في باريس والقواعد في القاهرة، أبرزها الرسائل العلمية لمكتبة جامعة القاهرة، فكانت تعليمات سعد زغلول تكتب من باريس بالحبر السري، وترسل على عنوان مكتبة جامعة القاهرة، داخل كتب علمية، وكان يتسلمها محمد صادق فهمي.
بعد أن يحصل محمد صادق فهمي، على الرسائل السرية كان يذهب بها إلى منزل عبد الرحمن فهمي لفك الشفرة، وفهم التعليمات التي حملتها الرسائل من باريس، وكان «سعد» في كل مرة يطلب كتب جديدة عن موضوعات مختلفة منها الأدبي أو العلمي، فيضع أعضاء التنظيم المعلومات المطلوبة بين سطور هذه الكتابات.
ماء البصل
وتقول مذكرات عبد الرحمن فهمي، التي نشرتها «المصري اليوم» في حلقات، بعنوان «ثورة 1919 المسلحة»، إن التنظيم لجأ إلى «فهمي» بعدما طلب من أحد الذين كانوا يعملون مع «سعد» وقت أن كان «سعد» مديرا للجامعة المصرية أن يطلب إجازة ثلاثة أشهر ونصف من الجامعة، وأن يعمل سكرتيرا خاصا لسعد زغلول في باريس، واتفق معه على طريقة المراسلة، وكان هذا الشاب هو محمد وجيه.
ويقول «فهمي»: فهمت من الأستاذ محمد صادق فهمي، أن محمد وجيه سافر لهذه المهمة، وأنه انتدب للعمل مكانه كسكرتير للجامعة مدة غيابه، وأنه مما سهل هذا كله أن سعد زغلول كان مديرا للجامعة وكان علي بهجت، وكيل الجامعة، يسهل عمليه الندب هذه.
وتألفت سكرتارية فنية بشأن هذه الرسائل تعمل تحت إشراف عبد الرحمن فهمي، وكانت مؤلفة من المرحوم الدكتور أحمد ماهر، رئيس الوزراء فيما بعد، والأستاذ محمد صادق فهمي، وأن الحبر السرى الذي كان يستخدم في المراسلات كان «ماء البصل».
سرايا السيدات
استخدمت النساء في الجهاز السري للثورة مرتين، الأولى كانت عندما حملت قرينة الدكتور محمود عزمي، الذي أصبح ممثلا لمصر في الأمم المتحدة فيما بعد، جوابا سريا من سعد زغلول إلى عبد الرحمن فهمي، في 4 يوليو 1919.
أما المرة الثانية فكانت في عام 1922، بينما كان سعد زغلول منفيا في جزيرة سيشل، وتحديدا بعد اعتقال قيادات الوفد، حيث أصدرت السلطة البريطانية قرارا بعدم ذكر سعد زغلول في مصر لا في جريدة، ولا مجلة، ولا حتى منشور، فاجتمعت زوجات المعتقلين من قادة الثورة في بيت صفية زغلول.
جمعت السيدات عددا كبيرا من العملات المصرية والأجنبية، بشكل سري، واتفقن مع محمود فهمي النقراشي، و أحمد ماهر باشا على تنفيذ خطة سماها مصطفى أمين، سرايا السيدات، كانت مهمتهن كتابة عبارة «يحيا سعد» على كل العملات، واتصل الجهاز السري بعملائه العاملين في مصالح الضرائب بالقاهرة والأقاليم، لكتابة نفس العبارة ليفاجئ الإنجليز بالعبارة منتشرة في كل ربوع مصر.